حوار مع مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية
تستضيف مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية في عددها الجديد، أكاديميا متمرّسا بالدراسات الإسلامية، وفارسا من فرسان القلم، يشرف على التدريس والبحث في جامعة ابن زهر في أغادير المعطاءة من المغرب الشقيق، وهو في الوقت نفسه مشرف على مؤسسة أهلية تؤطر التنمية والثقافة في بلده، لهذا تسعد المجلة بحوارها معه “فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الكريم عكيوي” وتريده حوارا مثمرا نافعا يستجلب الجوانب الخفية في التعامل مع رسائل النور وبيان طبيعتها لقارئ اللسان العربي. عملا على تحقيق المقاصد المشار إليها، نستهل حوارنا، بالتعرُّف إلى الأستاذ الكريم.
1- نريد أن يتعرّف القارئ الكريم على الأستاذ الدكتور عبد الكريم عكيوي من الطفولة إلى الكهولة.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّٰه والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فأشكر لمجلة النور جميل عنايتها ووافر رعايتها، وأرجو لها التوفيق والسداد في مهمتها العلمية والثقافية. أما عبد ربه عبد الكريم عكيوي فهو من مواليد قرية تافنكولت بإقليم تارودانت بالمغرب عام 1966م. تلقى تعليمه الابتدائي ثم الثانوي بمدينة تارودانت، وحصل على الباكالوريا في الآداب العصرية من ثانوية ابن سليمان الروداني. التحق بكلية الشريعة جامعة القرويين بأكادير وحصل منها على الإجازة. تابع دراسته العليا بدار الحديث الحسنية بالرباط وحصل منها على شهادة الدراسات العليا من شعبة علوم القرآن والحديث. وتابع دراسته العليا بكلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط شعبة الدراسات الإسلامية تخصص السنة وعلومها، وحصل منها على دبلوم الدراسات العليا (الماجستير) عام 1993 م. وحصل على دكتوراه الدولة في الدراسات الإسلامية من جامعة ابن زهر بأكادير عام 2001م.
وهو الآن أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بجامعة ابن زهر بأكادير شعبة الدراسات الإسلامية التي يزاول به التدريس وتأطير البحوث منذ عام 1995م. وهو أيضا أستاذ زائر بجامعة محمد الخامس أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
أشهر الأساتذة والعلماء الذين تتلمذ عليهم وكان لهم الأثر في حياته العلمية والعملية الدكتور فاروق حمادة والدكتور محمد شرحبيلي والدكتور الحسن العبادي.
متزوج من الدكتورة حبيبة أبو زيد أستاذة بكلية الشريعة بأكادير. وهي بنت الدكتور أحمد أبو زيد وهو من كبار الأساتذة الذين أثروا في مسيرة البحث العلمي في الجامعة المغربية، وإليه المرجع في قضايا البلاغة وإعجاز القرآن الكريم. أب لولدين معاذ وياسين. يسكن الآن مدينة أكادير بالمغرب.
2- متى كانت أوائل صلاتكم برسائل النور، وقصّة ذلك في مساركم المعرفي والدعوي الماتع.
لما التحقت أستاذا بالجامعة عام 1994 م درست مادة “تاريخ الإسلام المعاصر” لطلبة السنة الرابعة من قسم الدراسات الإسلامية. وكان تاريخ الدولة العثمانية في أواخر عهدها، ثم سقوطها وإعلان الجمهورية التركية من أهم أحداث الدراسة. وفي سياق بيان الحركة العلمية والثقافية في العالم الإسلامي عامة وفي تركيا خاصة، وقفت على جهود العلماء والمصلحين، فكان الأستاذ بديع الزمان النورسي (1876-1960م) ممن استوقفني منهجه في الدعوة والإصلاح، وتوقفت طويلا عند حركته الإصلاحية وأثرها البارز في تركيا، وما احتمل من أجل ذلك من العذاب والمعاناة، فبقي وفيا لمنهجه الإصلاحي. وكان لحركته الإصلاحية أثر بالغ في حفظ العقيدة الإسلامية في قلوب الأتراك، وتقديم أنموذج راق في الفكر الإسلامي يقوم على العلم والمعرفة، والتربية على القيم والتزكية، والتواصل مع الجميع على القيم المشتركة. فكان هذا أول ما عرفت الأستاذ النورسي من خلال بعض مصادر التاريخ التي اهتمت بتراجم علماء الإسلام المصلحين في العصر الحاضر.
وفي عام 1998م وبعد المؤتمر العالمي الرابع حول النورسي بإستانبول، وجدت عند الدكتور أحمد أبوزيد -وكان قد شارك في المؤتمر- كتابا في ترجمة النورسي وهو “النورسي رجل القدر في حياة أمة” للأستاذ أورخان محمد علي رحمه الله، فقرأته كلّه في ليلتين، فازدادت معرفتي بالأستاذ النورسي، فعرفت فيه رجلا مصلحا عزّ نظيره في العصر الحاضر، فقد كان ربانيا، حكيما، واسع الأفق، عميق التفكير، دقيق النظر، مع الورع والصلاح، وقوة الصبر، ولزوم القصد والاعتدال. فأحببته بقلبي، وأكبرته بعقلي لما عرفت فيه من الانقطاع الكلي طول حياته للتعريف بأنوار القرآن الكريم، وبيان جمال الإيمان، واحتمال صنوف كثيرة من الأذى من المحاكمة والنفي والسجن، فصبر طول حياته على محن شديدة متتابعة عليه حتى وفاته رحمه الله، بل ناله الأذى حتى وهو ميت في قبره، فنقل جثمانه رحمه الله إلى جهة مجهولة.
بعد قراءة ترجمة النورسي، قرأت بعض الأجزاء من رسائل النور لأنّها لم تدخل بعد كاملة إلى المغرب. وفي عام 1999م كان أول مؤتمر حول النورسي بالمغرب بكلية الآداب بالرباط جامعة محمد الخامس، شاركت فيه وكان مناسبة أكملت فيها الاطلاع على الرسائل، واتّسع اطلاعي على منهج الأستاذ النورسي في العلم والفكر. ومنذ ذلك التاريخ وأنا في قراءة مستمرة لرسائل النور، إما في سياق البحث العلمي للمشاركة في المؤتمرات العلمية، وإما في مجالس تربوية مع الطلبة والأساتذة، وإما في قراءات خاصة. وبكل تواضع وإنصاف أقول: إنّ رسائل النور لها أثر كبير في حياتي. ففي بعض الأحيان أرجع إليها في حال ظروف خاصة تحف بي يكون منها قلق أو ضجر، فأقرأ فيها فأسرح بقلبي وعقلي في سياحة فكرية وروحية في رياض رسائل النور، فينقلب الحال من القلق والضجر إلى السلوان والاطمئنان، لأنّ رسائل النور ترى من خلالها الجمال في كل شيء، وذلك من تجليات اسم ربنا تبارك وتعالى الحكيم.
3- عاصرتم في مساركم الدعوي والعلمي جملة من التحديات والتحولات التي تفعل فيها المعرفة فعلها الخاص، تتداخل معها جملة العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية والتربوية، هل يمكن للمتلبّس بالمعاني المنبثقة من رسائل النور أن يكون له دور في التعامل معها؟
رسائل النور انبجست من صلب الحياة، فوضعها صاحبها وهو في غمرة الحياة، وفي محنة السجون والمنافي، وفي سياق التدافع بين الخير والشر. وأودعها مؤلفها أفكاره التي يعيش آثارها وهو يتقلب في الحياة وما يحتف بها من الخطوب والدواهي، مع استحضار أنوار القرآن الكريم والرجوع إليه رجوع الفقير المحتاج، اليائس من غيره، فتنقدح في ذهنه المعاني والمعارف العظيمة يستلهم منها منهج السير في الحياة، ويستنير قلبه بإشراقات روحية سامية يستمد منها القوة المعنوية. فهو بين حركة الفكر من أجل قوة العقل وسلامة التفكير وبين إشراقات الروح من أجل زكاة النفس وسمو الروح، وهذا هو المنهج الأمثل للسير في الحياة.
فرسائل النور عبارة عن قواعد فكرية وروحية وعملية للسير في دروب الحياة. ولهذا فمن يتشرّب منهج النورسي من خلال رسائل النور، يعيش في حركة فكرية وعقلية دائبة، ويمارس تفاعلا ذوقيا مع الكون من حوله بجميع أجزائه وكل أحواله.
يكفي مثالا على ذلك أنّ المتلبس بمعاني رسائل النور -التي استمدها النورسي من القرآن الكريم- ينظر إلى المصيبة والمحنة، وهي من لوازم الحياة، بنظر خاص يمنحها صفة الجمال، ينقلب فيها الشر خيرا، والمحنة منحة. فالموت وهو أكبر مصائب الحياة له في رسائل النور وجه جميل. ووجه ذلك أنّ من قواعد النورسي رحمه الله أنّ اسم الله تعالى “الحكيم” و “الجميل” يستلزمان رؤية الجمال والخير في كل ما يجري في الكون وكلّ ما يحفّ بالإنسان، لأنّ فعل الجميل جميل. إنّما ينبغي للمكلّف أنْ ينظر بنظر خاص هو نظر الإيمان. وأحيل القارئ الكريم على رسالة المرضى ليقف عيانا على هذه القاعدة التي هي من قواعد السير في دروب الحياة.
4- شاركتكم المجلة كثيرا من اللقاءات العلمية التي كانت رسائل النور محورها، ما مظاهر التجاوب معها في المغرب الشقيق، وخاصة على المستوى الأكاديمي والأهلي.
المغرب أكثر البلاد العربية والإسلامية من حيث عدد المؤتمرات والندوات التي نظمت حول التعريف بالأستاذ النورسي وبمنهجه في الفكر والإصلاح، وبمعالم التجديد عنده رحمه الله. فمعرفة القارئ المغربي بالنورسي جاءت عن طريق الجامعة، من خلال المؤتمرات، وعن طريق ثلة من الأساتذة المغاربة الذين لهم أثر بارز في البحث العلمي في الجامعة المغربية والذين لهم مشاركات كثيرة في مختلف المؤتمرات حول النورسي داخل المغرب وخارجه. منهم الدكتور فاروق حمادة، والدكتور أحمد أبو زيد، والدكتور حسن الأمراني، والدكتور فريد الأنصاري رحمه الله وغيرهم.
والأستاذ النورسي رحمه الله موضع تقدير كبير من قبل الطلبة وعامة المشتغلين بالفكر الإسلامي، ومنهجه في الإصلاح محل استحسان وإعجاب. وهذا التجاوب مع رسائل النور لأسباب مختلفة أهمها شخصية النورسي رحمه الله المتميزة التي ظهرت فيها دلائل الإخلاص والتفاني في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، وترسيخ معاني القرآن الكريم، بقصد واعتدال على رغم المحنة والابتلاء. ثم ما في رسائل النور من ترسيخ الإيمان بقوّة الدليل المخاطب للعقل والقلب، يضاف إلى ذلك منهج القصد والاعتدال الذي خاطب من خلاله النورسي جميع المسلمين بجميع مذاهبهم، بل خاطب جميع العقلاء من البشر.
ونحن مقبلون إن شاء الله على تنظيم ندوة دولية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير، خلال الأشهر الأولى من عام 2016م، بالتعاون بين قسم التاريخ، والمركز المغربي للثقافة والتنمية والتعاون، ومركز إسطنبول للثقافة والعلوم حول الجانب التاريخي في رسائل النور وفي حياة النورسي رحمه الله.
5- متى كان أوّل ما كتبتم عن رسائل النور، وما موضوعها، وموضعها، والجديد الذي انقدح في بصيرتك منها؟ ماذا أكسبتكم رسائل النور فكرة وموضوعا ومنهجا ودافعية في التعليم والبحث؟
أوّل عمل حول رسائل النور كان عام 1999 م في أوّل مؤتمر ينعقد بالمغرب حول الأستاذ النورسي ورسائل النور، وكان بتعاون بين كلية الآداب بالرباط وبين مركز استانبول للثقافة والعلوم. وكان موضوع البحث “جهود بديع الزمان النورسي في إرساء أسس الوحدة الفكرية وتثبيت الحوار العلمي في عصره”. وهو بيان لمسألة كانت محل عناية كبيرة عند النورسي، وهي جمع كلمة الأمة بعد تفرّق، بعد التثبُّت من قواعد الخلاف العلمي. وكان هذا البحث أصل كتاب صدر بعد ذلك عام 2004م بشركة سوزلر بالقاهرة بعنوان “أسس الوحدة الفكرية عند بديع الزمان النورسي” عالج مسألة الخلاف المذهبي والفكري بين المسلمين، والقواعد النظرية والعملية التي وضعها النورسي رحمه الله وسار عليها ودعا إليها من أجل نبذ التمزق الذي حصل بسبب ضيق الأفق العلمي وسوء تدبير الخلاف العلمي. والآن، وبعد أكثر من عشر سنوات على هذا التاريخ، تؤكد الأحداث والوقائع أنّ وضع ميثاق لتدبير الخلاف المذهبي بين المسلمين من الضرورات المستعجلة. وهذا وجه من وجوه عمق التفكير وبعد النظر عند النورسي رحمه الله، أن يضع يده على موضع الداء من الأمة، ويُنبِّه إلى أعراضه وخطورة التهاون في معالجته، ووضع القواعد التي تمنع التفرق وتحول دون سوء تدبير الخلاف. ولقد عبر رحمه الله مرات عديدة عن أسفه الكبير لعدم تقدير علماء الإسلام المعاصرين لخطر الخلاف المذهبي. ولقد أطلق رحمه الله، عام 1911 وهو على منبر الجامع الأموي بدمشق، نداء قويا لجميع المسلمين وصيحة مدوية إلى جميع علمائهم في العصر الحاضر، حذّر فيها من أمراض الاستبداد، واليأس والتفرق، والغفلة عن الروابط النورانية التي تربط المؤمنين. ولقد أثبتت الأيام بعد نظره رحمه الله، فبقيت هذه الصيحة مدوية تحتاج من يصغي لها ويقدرها حق قدرها.
ولهذا تناولت معضلة الاختلاف بين المسلمين وتدبير الخلاف عند النورسي في بحثين آخرين أحدهما بعنوان “أركان الوحدة الإسلامية وقواعدها العملية عند النورسي” والآخر بعنوان “التزكية وتدبير الخلاف وأثرهما في وحدة الأمة” فاجتمع لي من خلال هذه الأعمال الأربعة خلاصة جامعة لمنهج تدبير الخلاف وقواعد بناء وحدة الأمة كما وضعها النورسي، مع زيادة تفصيل لها وترتيب. وأحسبه مشروعا عمليا ناجعا، هو من الفرائض الشرعية والواقعية على الفور دون التراخي، لأن العداوات بين المسلمين، والشقاق بين مذاهبهم، والتنازع بين علمائهم قد آل إلى فتنة واقتتال بينهم.
6- لو تفضّلتم وأطلعتمونا على آخر إصداراتكم مضمونا ومنهجا وعناصر الجدّة والتجديد فيها.
صدر عن دار القلم بدمشق كتاب بعنوان “فاروق حمادة المحدث الراسخ والمربي الناصح” وهو ترجمة لشيخي وأستاذي الدكتور فاروق حمادة، وهو علم بارز من أعلام علماء الإسلام المعاصرين. انطلق إشعاعه العلمي وتألقه الفكري من المغرب الأقصى، ثم استنارت به سائر البلاد الإسلامية. أغنى المكتبة الإسلامية بتحقيقات ومؤلفات مفيدة. وسار هذا الكتاب على غير المعهود في التراجم. فهو، وإن كان تعريفا بالدكتور فاروق حمادة، فإنه حافل بقواعد البحث العلمي ومناهج المعرفة، وجامع لمعالم الفكر الإسلامي كما ينبغي أن يكون في قيامه على المصادر والأصول، وفي التزامه قواعد البحث العلمي.
وصدر أيضا عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء كتاب “إشراقات نورية من الديار المغربية” هو خلاصة البحث والنظر في فكر الأستاذ النورسي ومنهجه، وفيه بيان مواطن التجديد والقوة عنده رحمه الله.
7- معلوم عن الأستاذ أنّه كتب لنيل درجته العلمية السامقة (الدكتوراه) عن نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية، ويدخل فيها اعتبار المآل، فهل من مطمع في الكتابة عن نظرية المآل مراعاتها وتطبيقاتها في رسائل النور؟
مما تميّز به النورسي رحمه الله، عمق النظر وسعة التفكير. ومن آثار ذلك حضور النظر المستقبلي القائم على التأمل في الوقائع والتفكر فيها واستشراف آثارها وتصور نتائجها واعتبار مآلاتها. يكفي دليلا على ذلك تحذيره الشديد من أمراض الشقاق والافتراق وهو في ذلك يستشرف مستقبل المسلمين من بعده. ويكفي أن أذكر من ذلك أيضا أنّه، بعد تأمل طويل في أحوال تركيا أواخر الدولة العثمانية، وفي أحوال العالم الإسلامي والعالم عامة وما يتحرك فيه من حوادث ويروج من أفكار، قال وهو يستشرف مستقبل الأيام: إنّ الدولة العثمانية حبلى بالعلمانية وستلد يوما ما، وإنّ أوربا حبلى بالإسلام وستلد يوما.
فاعتبار المآل واستشراف المستقبل حاضر بقوة في رسائل النور. فلو تصدى لهذا المسألة باحث جاد، لأسفر عن فوائد جليلة في منهج اعتبار المآل عند النورسي رحمه الله. وإن الفكر الإسلامي المعاصر في حاجة لهذا المنهج لأنه من ضبط التفكير وسلامته ومنهج العمل بالمقاصد. ومن مظاهر الخلل في الفكر الإسلامي المعاصر الغفلة عن فقه الموازنات وعدم تقدير المآلات، وذلك سبب كثير من المآسي والفتن التي حلت بالمسلمين.
8- ما درجة استحضاركم لرسائل النور في عملكم الأكاديمي؟ وخاصة في مجال تخصصكم الأصلي الحديث ومناهج البحث؟
من خلال قراءاتي وبحثي في رسائل النور، استخلصت منها جملة من القواعد المفيدة في العمل العلمي والكتابة الأكاديمية ومناهج البحث، أهمها:
– إنّ كل مذهب فكري معتبر عند جماعة من البشر لابد أن يكون فيه وجه من الحق والصواب، فينبغي النظر إلى هذا الوجه منه دون غيره. فبذلك تتقدم المعرفة، ويحصل تراكم المعارف، ويتم التواصل بين الحكماء وأهل المعرفة من البشر.
– البحث العلمي قصده خدمة البشر وتنمية الإنسان، ولهذا لا ينبغي بحال أن ينفصل فيه العقل والفكر عن القلب والروح، وإنّما البحث العلمي في كل التخصصات لابد أن يروم رقي الفكر وزيادة العقل في الفهم واستيعاب المعارف الجديدة، وسمو الروح وزكاة القلب. فكلّ بحث علمي لابد أن يحصل منه رقي علمي وسمو روحي، يبني المعرفة ويرسخ القيم. أما تعليم المعارف والعلوم من غير زكاة القلوب فيحصل منه الشقاء لأنّ درجة الإفادة من هذه العلوم تكون ضعيفة، لغياب القيم، وبغياب القيم تغيب الأهداف السامية والغايات النبيلة، فتستعمل نتائج العلم في غير موضعها. ومثله العناية بالقلب والروح دون رقي العقل بالمعارف والعلوم يحصل منه العجز والعصبية.
فكل هذه القواعد زادت رسوخا وتأكّدت فائدتها عندي بعد قراءة رسائل النور.
9- بناء على ما سلف هل يمكن أن يقال إن رسائل النور نافعة لكل التخصصات، أم أنّها نافعة لتخصصات مخصوصة، أم أنّها تستوعب الإنسان في كل أحواله وأوضاعه، أي أنّها مفيدة للإنسان من حيث كونه إنسانا؟
فائدة رسائل النور على مستويين: المستوى العام الذي يشترك فيه عامة القراء ويكون في متناول كل من له القدر الأدنى من العلم. وهو الذي يتعلق بالموضوعات العامة في رسائل النور، مثل حقيقة الحياة ومغزاها، وحقيقة الإنسان ومعناه، وطرق التربية والتزكية، والجمال ومعانيه وتجلياته وآثاره وغيرها من الموضوعات العامة. والمستوى الثاني مستوى التخصص. فكلّ باحث متخصص إذا نظر في رسائل النور يستوعب منها ما يتعلق به. وخاصة في أصول الدين وعلم الكلام، والمنطق، وعلوم القرآن، والسيرة النبوية، وعلم المقاصد، والتاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة، وفي الفكر الإسلامي عامة. بشرط أن يكون الباحث متخصصا بالمعنى العلمي الدقيق للتخصص، فسيستفيد لا محالة من رسائل النور. فموضوعات رسائل النور غزيرة، ومجالاتها متنوعة. فالباحث في علوم القرآن مثلا يجد فيها ضالته، فهي ترجمان القرآن كما وصفها مؤلفها. يكفي لبيان قيمتها في هذا التخصص ما عرف به النورسي القرآن الكريم. إنه تعريف جامع شامل. ومن شموله وقوته أنك كلما قرأته تزداد يقينا أنك لن تحيط بمعنى القرآن الكريم. وأما قوة تدبره للقرآن الكريم فظاهر لا يخفى. وكذلك المتخصص في علم النفس مثلا يجد فيها نظرات عميقة في النفس البشرية وأحوالها وصفاتها. وهذه سمة الباحث المتخصص أن يجد ضالته في كل ما يقرأ وتكون له القدرة على استخراج الفوائد المتعلقة بتخصصه من كل العلوم الأخرى، لأن العلوم تتكامل.
10- ما أبرز ما استوقفكم في رسائل النور، من حيث مضمونها العام، وموضوعاتها ومنهجها؟
أبدأ بالمنهج: فمن أحسن ما يستوقف الناظر في رسائل النور، منهج مراعاة أحوال المخاطبين، فتجده ينتقل من العام إلى الخاص، ومن القاعدة إلى البيان، ومن الكل إلى الجزء، ومن الإجمال إلى التفصيل. وقد يجمل في موضع ويحيلك على البيان والتفصيل في موضع آخر. ويسعفك بقوة التصوير ودقة التمثيل حتى تغدو المعاني الدقيقة واضحة سهلة التناول على فهم عامة القراء. انظر مثلا كيف يمثّل لبشاعة نسبة أحوال الكون وما فيه من أحداث وانتظام إلى الأسباب الطبيعية، بمن تأتيه هدية من سلطان بواسطة جندي يرسله السلطان بالهدية، فيعمد إلى تقبيل أقدام الجندي. فكل عاقل يحكم على هذا الفعل بالسفه لأنّه ينسب الأمر إلى غير صاحبه. وبهذا يشرح النورسي رحمه الله مسألة أَعْيَت العلماء منذ القديم وهي بيان علاقة الأسباب بالمسببات، وأنها علاقة عادية، لئلا ينسب الفعل إلى السبب الظاهر، وإنما لخالق الأسباب وهو الله الخالق العظيم جل وعلا.
ومن ذلك أيضا تعلق الرسائل بالكون المخلوق بجميع أجزائه من الذرات إلى المجرات من جهة الوصف الدقيق والتصوير الجميل، مع تأييد ذلك بحقائق العلوم مما يجعل قراءة رسائل النور سياحة روحية وفكرية، تأخذ بالعقل والقلب فتطوف به في الكون المخلوق تستنطق أجزاءه، وتسمعه تسبيحاته بلسان حاله.
وفيها أيضا منهج الافتراض الجدلي والسبر والتقسيم الذي يفترض جميع ما قد يعرض للإنسان من أفكار في المسألة، فيذكرها بأمانة، ثم يكر عليها بالمناقشة والدراسة حتى يخلص بك إلى النتيجة بقوة الدليل، ومنطق العقل. فهو يخاطب أشدّ العتاة الملحدين ويستدل عليهم بما يعتقدون صحته من العلوم. فلا يمكن لقارئ رسائل النور ولو كان مخالفا للنورسي في الدين والملة والفكر، أن يصفه بالتحامل أو البعد عن الإنصاف. فالنورسي يخاطب الإنسان بشقيه عقله وقلبه.
وفيها منهج الحوار العلمي الذي يقوم على القصد إلى الحقيقة العلمية، مع الاحترام المتبادل، واستعمال اللغة الجميلة التي ترسّخ المودة، واتقاء التجريح والتقبيح. فقارئ رسائل النور يشعر بتودّد النورسي رحمه الله إليه، ويمد إليه يد التواصل والتعارف على قيم الخير التي يتفق عليها جميع البشر.
ومن قوة المنهج في رسائل النور الاستثمار المنهجي للعلوم المختلفة من أصول الدين وعلم الكلام، والفلسفة والمنطق، واللغة والآداب، والقانون والسياسة، والتاريخ، وعلوم الكون والحياة. فقد جعل هذه العلوم تسير في مهيَع واحد في انسجام وائتلاف.
ومن منهجها المتميز أن مؤلفها صاغ أفكارها من فيض التجربة والمعاناة. فكل حقيقة من حقائق التربية والتزكية التي عبّر عنها النورسي، مر بها وعاش آثارها في قلبه ونفسه. ولهذا، وأنت تقرأ كلامه، تشعر أنّه وجد نورا في قلبه وعاش حالة روحية وفكرية سامية، فيجتهد بكل ما يملك من قوة الدليل والبرهان، ومن بلاغة اللسان والبيان أن ينقلك إلى مثل مقامه وتجربته لتعيش مثل ما عاش من تجربة، وتذوق مثل ما ذاق، فتطمئن بقلبك وعقلك إلى سلامة الفكرة وفائدتها وآثارها العملية. ولهذا جاءت قضايا الإيمان عنده عملية تظهر آثارها في الكون والحياة.
وأما من جهة المضمون فرسائل النور تتناول القضايا الكبرى التي لازمت الإنسان في وجوده عبر العصور، وهي حقيقة الحياة والإنسان، وغاية الوجود، والمصير والمآل. فهذا موضوعها العام. وإلى جانب هذا الموضوع العام يتناول النورسي موضوعات متنوعة ومتناثرة لها ناظم ورابط واحد هو ترسيخ الإيمان في القلوب، وبناؤه في العقول. فكل الموضوعات الجزئية تخدم هذا الموضوع العام، حتى جزئيات علوم الكون والحياة، فكان يذكرها في سياق أنها عبارة عن لغات مختلفة تترجم عن معنى واحد هو عظمة الخالق ووحدانيته من خلال عظمة خلقه وانتظام أفعاله.
ومما يستوقف الناظر فيها أيضا ولوعها بالجمال فهي بحق رسائل في الجمال. فالنورسي رحمه الله رجل الجمال يحدثك عن الجمال حيث ما كان، ولو في خضم المحنة ووسط المصيبة. لقد وطّن نفسه على رؤية الجمال في كل شيء، حتى فيما يبدو شرا ومكروها. فما من شيء ينظر إليه ويتوقّف عنده إلاّ ويبحث فيه عن وجهه الجميل الذي تتجلى فيه الحكمة والفائدة العاجلة أو الآجلة. فللشيخوخة جمالها، وللمرض جماله، وللمحنة جمالها، وللموت وهو أكبر المصائب جماله. لكن وجدان هذا الجمال ليس بمقدور كل أحد. وهنا يسعفك النورسي بمفتاح هذا الجمال وهو الإيمان والعيش في كنف تجليات أسماء الله الحسنى ومنها اسم “الجميل” واسم “الحكيم”. وهذا موضوع آخر يستوقف الناظر في رسائل النور وهو نظرية تجليات أسماء الله الحسنى التي تجعلك ترى وتحس بآثار صفات الله تعالى وتشاهد آثار أفعاله وتمارس تفاعلا ذوقيا مع الكون من حولك، فترجع كل حدث في الكون إلى الاسم الذي نتج عنه، فتصل إلى مقام الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.”
ومن ذلك تناول النورسي للنفس في سياق التربية والتزكية، فغاص في أحوالها وصفاتها واعتبر أنّ تزكيتها في عدم تزكيتها، وأن بداية السمو هو الشعور بالعجز بين يدي الله والفقر إليه، وأنّ لبّ التربية في اتهام النفس وكسر أنانيتها، والذوبان في أنا الجماعة.
وفيها أيضا خطاب الجماعة والائتلاف، والنظر إلى الأمة الإسلامية بجميع مذاهبها، واستحضار القيم الإنسانية التي يعتبرها كل البشر. فكل مسلم مهما كان مذهبه العقدي والفكري سيستمتع بقراءة رسائل النور، ويجد فيها الفائدة، ويحس منها بالرقي في فكره وعقله، وفي روحه وقلبه، لأنّها صيغت بفكر الاجتماع. فكل قارئ لها يأنس بها وتسعفه باستبعاد كلّ ما شأنه أن يستفز مشاعره من خلاف مذهبي أو فكري، وإنّما بالهدوء والأناة، والحلم والسكينة. ولهذا فإنّ رسائل النور أنموذج للتقريب بين المذاهب الإسلامية. ولا يخفى على كل مسلم منصف ما آل إليه الخلاف بين السنة والشيعة من الاقتتال بسبب الاستفزاز المتبادل والتراشق بالتهم والتجريح. إن التقريب بين السنة والشيعة ضرورة مستعجلة، وهذا هو التحدي الكبير الذي تنتظره الأمة كلّها من أهل الحكمة من علمائها من أهل السنة والشيعة. والمقصود بالتقريب اتقاء العداوة، والتعاون على ما هو محل اتفاق، وضبط ما هو محل خلاف وإجراؤه على النحو الذي لا يستفز مشاعر أي واحد من الفريقين. وإن رسائل النور مشروع عظيم مناسب للتقريب بين السنة والشيعة. وبهذه المناسبة أدعو الشيعة إلى قراءة رسائل النور لمعرفة المنهج الأمثل عند أهل السنة لتدبير الخلاف المذهبي، وأدعو أهل السنة إلى قراءتها لمعرفة المنهج الأمثل للتعامل مع المخالف واتقاء شر الخلاف، بل إنّ رسائل النور تقدم الخلاف من أجل الحق على أنه جمال للحياة وللفكر والعلم والمعرفة.
وخلاصة القول أنّ رسائل النور حديقة غناء، من دخلها يلتذ من طيب ثمرها ويشم من طيب عبيرها.
11- سيدي الكريم، لا شك أنّكم كتبتكم كثيرا عن رسائل النور، لو تكرّمتم بعرض شيء منها للقارئ الكريم. وفق ترتيبها التاريخي، وتعليقكم عليها وفق تسلسل تاريخ كتابتها.
أول عمل حول رسائل النور كان عام 1999 م في أول مؤتمر ينعقد بالمغرب حول الأستاذ النورسي ورسائل النور وكان بتعاون بين كلية الآداب بالرباط وبين مركز إسطنبول للثقافة والعلوم. وعنوان البحث هو: “جهود بديع الزمان النورسي في إرساء أسس الوحدة الفكرية وتثبيت الحوار العلمي في عصره”. ثم تتابعت البحوث على الترتيب الآتي:
– “المقاصد العملية للتربية السلوكية عند النورسي” يناير 2003.
– “غاية الحياة والإنسان من خلال رسائل بديع الزمان” 2004.
– “نحو نظرية إسلامية للجمال من خلال رسائل النور”. أبريل 2005م
– “أركان الوحدة الإسلامية وقواعدها العملية عند النورسي” غشت 2005.
– “اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند النورسي” مارس 2008.
– “التصوف عند بديع الزمان النورسي” شتنبر 2008.
– “منهج النورسي في إحصاء أسماء الله الحسنى” يناير 2010.
– “مفهوم الحضارة وأركانها عند النورسي” فبراير 2013.
– “التزكية وتدبير الخلاف وأثرهما في وحدة الأمة” فبراير 2013.
12- ما أهمية رسائل النور في النظر والتدبير المنبثق عن الأسس الإيمانية المفعّلة في شعاب الحياة؟
من أحسن ما في رسائل النور بيان فوائد الإيمان وآثاره في الحياة الخاصة والعامة.
منها أنّ الإيمان لا يسلب لذّة الحياة والاستمتاع بها، وإنّما يمنح المتعة مضاعفة على وجه خاص هو أكثر جمالا ومتعة. أي إنّ متعة الإيمان لا تعدلها متعة. وهذه القاعدة العامة تستوعب الإنسان في جميع مراحل عمره عند النورسي رحمه الله، ومحطات حياته. فخاطب الشباب، وخاطب الشيوخ، وخاطب المرأة، وخاطب الإنسان في أحواله المختلفة، في المرض والصحة، وفي الفقر والغنى، وفي الخوف والأمن، وفي الشدّة والرخاء، وفي السجن والأسر والسراح والحرية. وخاطب الإنسان من جهة ما يعرض له في عقيدته وفكره، فخاطب المؤمن والكافر.
وكان من مقاصد النورسي أيضا بيان فائدة الإيمان في الحياة الاجتماعية، فتكلم عن الأسرة، والجماعة المسلمة، والمجتمع الإنساني. في كلّ هذا يقيم الدليل العملي بالبرهان العقلي والحسي، مع التمثيل واقتباس أحوال الحياة اليومية، على أنّ الإيمان، كما يقول “قلعة حصينة” هو جمال الحياة ولذتها وسؤددها، منه يستمد السلوان والعون والمدد على السير بتوازن في شعاب الحياة وتقلّباتها المختلفة. وقصد النورسي رحمه الله بذلك جعل رسائل النور مائدة مختلفة الأذواق ليأخذ منها كل ما يناسبه. فمن أجل أخذ القوت الفكري والروحي للسير في الحياة، فالشاب يقرأ في رسائل النور رسالة الشباب، والشيخ يقرأ رسالة الشيوخ، والمريض يقرأ رسالة المرضى، والمبتلى بالمحنة يقرأ رسائل النورسي في السجن الذي يسميه المدرسة اليوسفية فيمنحه صفة الجمال، والملحد يقرأ رسالة الطبيعة وهكذا كل بحسبه.
فالقارئ الذي يُقْبل على رسائل النور بإخلاص ويقرؤها بصدق لابد أن يتأثر بها لأنها تحرك العقل وتداعب القلب، وتخاطب المسلم والإنسان وهو في غمرة الحياة، فيجد جميع علاجات همومه في رسائل النور وكأنها تخاطبه خاصة.
13- ما بيّنات ميزتا الشمول والتكامل في رسائل النور، وما تجلياتها في مباحث الكون والإنسان والحياة والمعرفة؟
من أهم مقاصد النورسي في رسائله أن يزيل الفصام المتوهم بين العقل والقلب، وبين علوم الكون والحياة وبين علوم الشريعة. وهذا ما منح رسائل النور صفة الشمول فامتدت موضوعاتها واتسعت مجالاتها لتشمل علوم النقل والعقل، وعلوم الكون والحياة، وعلوم الإنسان.
ومن تجليات ذلك أن علوم الكون والحياة طرق لتنمية معاش الإنسان، وهي أيضا طرق سالكة واضحة إلى معرفة الله تعالى الخالق البارئ، ومعرفة أسمائه ومشاهدة تجلياتها في الكون. فالتلميذ والطالب الذي يدرس الفيزياء مثلا أو علوم الحياة والأرض بهذا المنظار، يقبل على هذه العلوم بشوق وشغف ومحبة، لأنه يجد فيها لذتين: لذة السمو العقلي وتنمية المعرفة بمعرفة الكون، ولذة القرب من الله تعالى ومعرفته ومشاهدة تجليات جماله وجلاله. وبهذا تسري الروح في هذه العلوم وتكتسب قيمة إضافية، لأنها سبب للرقي في الحياة، وسبيل سالك للقرب من الله تعالى، فتكون علوم الكون طريقا إلى تنمية الفكر والعقل، وتزكية القلب والروح وهذا لب التربية وشرط التنمية.
14- ما الناحية الإجرائية التي تيسّر إقناع القارئ العادي بأنّ رسائل النور قيمة مضافة لمختلف مسارات المرابطة في المجتمع الإنساني.
لتتم الإفادة من رسائل النور ينبغي مراعاة الخطوات الآتية:
1- أن يطّلع القارئ على ترجمة النورسي ويعرف الظروف الزمانية والمكانية التي عايشها رحمه الله، فذلك معين على فهم كثير من الوقائع والقضايا التي ذكرها في رسائل النور.
2- أن يقبل على قراءتها بإنصاف وتواضع من غير أحكام مسبقة، وهذان شرطان ضروريان في كل طالب علم، بل حتى في كل عالم يقصد المعرفة وبلوغ الحقيقة، ويبحث عن الحكمة حيث كانت، ويأخذها إذا وجدها على لسان كل فريق. أما من لا يقبل إلا ما كان من مواقفه ومن على مذهبه، فهذا لن ينتفع بشيء ولن يزيد إلى معرفته شيئا.
3- إذا كان القارئ حديث عهد بالرسائل، فعليه أن يتريّث في الحكم حتى يقرأ القدر الكافي منها. فقد يبدو له بالنظر المستعجل أنّ هذا المعنى بسيط جدا ليس فيه جديد يستحق الاشتغال به. فلا يستعجل وليواصل القراءة فسيرى -هذه المعاني التي يعدها بسيطة- كيف يقيم عليها النورسي معان دقيقة.
4- على القارئ أن يقرأ بمنهج استخلاص القواعد الجامعة، لئلا يشرد ذهنه مع الجزئيات التفصيلية. فكل تفصيل عند النورسي له قاعدة عامة تضبطه، قد يذكرها في البداية وقد يؤخرها إلى نهاية المسألة. فمثلا في شرح أسماء الله الحسنى يقرأ وهو يستحضر قاعدة التجلي.
5- أن يطلع القارئ على البحوث المنجزة حول رسائل النور في المؤتمرات، والندوات، والمجلات مثل مجلة النور هذه، والمؤلفات الخاصة، فهي مفاتح مهمة للإفادة من رسائل النور.
15- شاركتم في تأطير ملتقيات الأكاديميين الشباب المهتمين بدراسة رسائل النور، بما تنصح لهم؟
من أهم ما ينبغي أن يشتغل به الباحثون الشباب، المهتمين برسائل النور والذين لهم الذوق العلمي، استنطاق رسائل النور للكشف عن الأصول التي بنيت عليها. فكثير من قضايا الإيمان والأفكار والقواعد والأحكام في التربية وغيرها التي عبّر عنها النورسي في الرسائل بنيت على أصول قوية من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال المحققين من العلماء عبر العصور، ولم يكن للنورسي رحمه الله الوقت الكافي لتفصيلها وإحالتها إلى هذه الأصول.
فمثلا نظرية تجليات أسماء الله الحسنى يظهر بالنظر العابر أنها اجتهاد من النورسي ولا أصل لها من القرآن والسنة، وقد يغالي البعض فيعتبرها بدعة. لكن الباحث صاحب الذوق العلمي المكتسب من الرسوخ في القرآن والسنة وإدمان الاطلاع عليها، بالتدبر، يجد لها أصولا من القرآن والسنة. خذ من مثلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى جعل الرحمة مائة جزء أمسك عند تسعة تسعين جزء وأرسل في الأرض جزءًا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها مخافة أن تصيبه. فيستفاد من هذا أنّ كلّ مظاهر الرقة والرحمة بين الخلائق تجليات لرحمة الله تعالى الرحمن الرحيم.
فينبغي للباحثين البحث في رسائل النور بمنهج الجمع بين الجزئيات والكليات وإرجاع كل جزئية إلى الحكم الكلي الذي تفرعت عنه، والعناية الخاصة بالقواعد لأن رسائل النور في جزء كبير منها عبارة عن قواعد جامعة.
16- نستنصح سيادتكم، هل من مقترحات عن الملفات الأَوْلَى بالدراسة في العصر الحديث.
من قواعد البحث العلمي وضوابطه أن يستجيب لحاجات الزمان والمكان، وأن يتعلق بالإنسان وهو في خضم الحياة. وإن العالم المعاصر يعج بكثير من المعضلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن أصلها فكري، فهي في حقيقتها معضلات فكرية. فوجب على أهل الفكر والعلم بحث هذه المعضلات ودراستها وبيان مواطن الخلل فيها، ووضع الحلول العلمية لتكون سهلة التطبيق والتناول على أهل الشأن العام. وكثير من هذه المعضلات له صفة الاستعجال ولا يحتمل التأخير، وكل تأجيل يكون ثمنه باهظا. وأكثر هذه المعضلات أثرها كبير على العالم الإسلامي خاصة. فهي، في نظري، ملفات لها الأولوية، ويجب أن تجتمع عليها جهود العقلاء المخلصين، ويشتغل عليها أهل العلم والفكر. وهذه الملفات يمكن جمعها في القضايا الآتية:
– ميثاق لتدبير الخلاف المذهبي والتقريب بين المذاهب الإسلامية.
– منهج التعايش الإنساني والتواصل البشري.
– قضايا البيئة وحماية الأرض التي هي موطن مشترك بين البشر.
– التكامل بين العلوم والتواصل بين التخصصات.
– التربية والتعليم والتأليف بين المعرفة وبين القيم.
فكلّ هذه القضايا معضلات إنسانية، هي محل اهتمام العالم كله، لأنّ آثارها تجري على كل من ينتسب إلى هذه الأرض. وإن للفكر الإسلامي قيمة مضافة في كل هذه القضايا. ورسائل النور مرجع في كل هذه الموضوعات.
17- نشكركم على استضافتكم للمجلة، هل من توجيهات للمجلة في خطها ومضمونها ومنهجها، فضلا عن نصائح لقرّاء رسائل النور، وللمهتمين بالإصلاح في العالم الإسلامي والأسرة الإنسانية.
ليس لي إلا أن أنوه بمجلة النور وأدعو لها بالتوفيق والسداد. وأرجو أن تكون المجلة دائما فضاء للتلاقي العلمي، والتواصل الفكري بين أهل العلم والفكر في العالم الإسلامي أولا، وفي العالم كله.
ولعامة القراء وأهل الفكر والإصلاح أقول: إن هذا الزمان، بسبب قوة التواصل والإعلام، غدا فيه للكلمة قوة وسلطان. وأحوال العالم الإسلامي حرجة جدا. فكلّ تساهل في شأن الكلمة مقروءة أو مسموعة قد يؤدي ثمنها باهظا جميع المسلمين. فالأمر جد وليس هزلا. فالواجب شرعا وعقلا، التحلي بالحكمة وبعد النظر، والعدل والإنصاف مع الموافق والمخالف، والتحلل من مبالغات سلطان العواطف، واستحضار فقه المقاصد والحكم ونظر الموازنات، والنظر بنظر الاجتماع والائتلاف، وإعمال قاعدة مراعاة الخلاف، واعتبار المآلات، والتزام الكلمة الطيبة في الخطاب والكتابة، واتقاء التقبيح والتجريح والاستفزاز. ثم العمل بجد على تثبيت الأمن، ففي فضاء الأمن يكون التفكير سليما، وتظهر الحقيقة لكل منصف. وفي حال الخوف يضطرب التفكير لأنّ العقل يقع تحت تأثير سلطان العواطف المعزولة عن العقل المستهدي بالوحي فيظهر الغلو في التفكير والتصرف. فمن أراد أن يحجب الحقيقة فإنه يثير العجاج والغبار فلا يصفو النظر للناس. وهذا واقع العالم الإسلامي اليوم. فهناك من يثير العجاج والغبار فتلتبس الطرق والسبل على الناس فيضطربون.
وفي الحديث الشريف “ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار”.
أجدد الشكر لمجلة النور وأدعو لها بالتوفيق.