وداع رمضان

بعد حين نودع شهر رمضان المبارك لنستقبل شهر شوال. وإن انقضاء هذا الشهر المبارك فيه عبر ودلالات عظيمة ينبغي استحضارها، وله معان يجب التوقف عندها.
فعلى المسلم أن يودع شهر رمضان من خلال وقفات للتأمل والمناجاة، والتدبر في الأحوال والمآلات. وأول ما ينبغي :
1- التفكر في حال الزمان والاعتبار بالوقت، فكم من رمضان حل علينا ثم ذهب إلى غير رجعة، إن الزمان مخلوق عجيب، يجري من غير توقف، وإنما هي أعمارنا تنقص ولا تزيد، وتصغر ولا تكبر، وآجالنا تدنو وتقترب.
ورحم القائل :
ما أسرع الأيام في طينـــــــــــــــــــــــــا تمضي علينا ثم تمضي بنا
في كل يوم أمل قد نأى مــرامه عن أجـــل قد دنــــــا
أنذرنا الدهر وما نرعوي كأنما الدهر سوانا عنا
إن وداع شهر رمضان ورحيله دليل على أن الزمان إلى ذهاب وانقضاء، لأن كل شيء في الكون المخلوق يجري عليه الزوال ويؤول إلى الفناء، لأن البقاء ليس إلا لله الواحد الأحد، فهو وحده الباقي الذي لا ينتهي وجوده، فهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء ” كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون” (القصص88) و “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.” (الرحمن: 26 / 27 ).


فلنتذكر ونحن نودع شهر رمضان، أنه شهر قد نقص من أعمارنا لأنه كمال قال الشاعر:
العمر ينقص والذنوب تزيــد وتقال عثرات الفتى فيعود
كيف يستطيع جحود ذنب رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي تقليلها وعن الممات يحيد
فليكن وداع شهر رمضان اعتبارا بأحوال الزمان على ظهر الأرض واستحضارا لحقيقة العبور والمجاوزة من دار الدنيا إلى الدار الآخرة.
2 – وعلى المسلم أيضا أن يودع شهر رمضان بين الخوف والرجاء، فيشفق على نفسه خوفا من أن يرد صيامه ويبطل عمله لأن للأعمال مبطلات. فيستقبل أيامه وباقي عمره بعد رمضان بالاجتهاد في الطاعات ولزوم القربات لعله يتدارك ويستدرك، لأن رحمة الله تعالى واسعة. وليفتح المسلم باب الرجاء لأن فضل الله تعالى عظيم.
3 – ومن أدب توديع شهر رمضان أن يتوقف الصائم عند فوائد رمضان وآثاره حتى تبقى فوائده مستمرة بعد رمضان. فمن العبث أن يصوم المسلم خلال رمضان عن الشهوات ويروض نفسه ويهذبها حتى إذا خرج رمضان أسرف في اللذات، ولم يبال أكل من الحلال أم من الحرام. ومن العبث أن يجتهد المرء في طاعة ربه عز وجل طيلة شهر رمضان ثم يعود إلى المعصية بعد رمضان. إن الخالق العظيم المعبود بحق خلال رمضان هو نفسه المعبود في غير رمضان. فليذكر الصائم وهو يودع شهر رمضان أن من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله حي لا يموت.

4 – ومن علامات الخير في الصائم أن يودع رمضان وهو يحزن على فراقه وذهابه، لأن رمضان موعد سنوي مع الله تعالى العظيم الرحيم، الكريم الجميل، يتجلى فيه على عباده برحمته ويشملهم بفضله ورعايته، فيفتح لهم أبواب جناته ونعيمه، ويضيق السبل على الشيطان وأعوانه. فكيف لا يحزن المسلم على انتهاء موعد عظيم ولقاء جميل مع خالق الأرض والسماوات.

5 – وليودع المسلم شهر رمضان وهو في شفقة على نفسه ورجاء لرحمة ربه. وليستحضر حقيقة من حقائق الحياة وهو أنه من المحتمل أن يأتي رمضان القابل وهو في الأموات.
وقد كان دأب الصالحين أن الواحد منهم إذا أدى عبادة اعتبرها آخر فرض له في عمره، فيصلي صلاة المودع فإن كانت صلاة الظهر صلاها وهو يستحضر أنها آخر صلاة في حياته، وإنه لن يدرك العصر، وإن صام صام صيام المودع فيستحضر أنه آخر رمضان في عمره وإن أجله سينتهي قبل حلول رمضان القادم. عن عبد الله بنِ عُمَر رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ : “كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ” وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ” (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ). فمن ودع رمضان مستحضرا هذه الحقيقة فإن ذلك علامة صلاحه وآية فقهه وعقله.

6 – وأحسن مودع لرمضان من يودعه وقد زكت نفسه وتهذبت صفاته وحسنت أخلاقه، فيوطن نفسه أن تبقى نفحات رمضان مصاحبة له بعد رمضان، فيلزم الطاعة ويتقى المعصية، فإذا صام في رمضان عن شهوة البطن والفرج، فليصم بعد رمضان عن المعصية وعن الحرام، فلتصم يده بعد رمضان عن المعصية، ورجله عن مواطن الرذيلة، وليصم بصره عن المحرمات، وسمعه عن الفجور واللغو، فهذا كله من فوائذ رمضان التي يجب أن تبقى بعد رمضان.

7 – ومن توابع رمضان إخراج زكاة الفطر، فعلى الصائم أن يخرجها طيبة بها نفسه يرجو بها استدراك ما قد يعتري صيامه من النقص. عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ. مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ” (سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر)
8 – ومن ذلك أيضا إحياء عيد الفطر بإظهار السرور فيه والشكر لله تعالى على نعمته ومنته وفضله وتوفيقه، والتواصل مع الجيران والأقارب وذوى الأرحام والصلح والإصلاح بين المسلمين.

9 – ولا ينسى المسلم وهو يودع شهر الصيام أن أمامه شهر شوال سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ستة أيام. عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ .” (صحيح مسلم، كتاب الصيام، بَاب اسْتِحْبَابِ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ إِتْبَاعًا لِرَمَضَانَ ). بمعنى كان كصيام عام كامل في الفضل والأجر.

فهذه وقفات وأعمال ينبغي أن تحضر في ذهن الصائم وهو يودع شهر رمضان، فمن وقف عندها واستحضرها فهو المودع حقيقة لشهر رمضان، وهو المستفيد حقا من مدرسة رمضان.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وجميع أعمالنا، واعتق رقابنا من النار، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، يا كريم، يا عظيم، يا جليل، يا جميل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

زر الذهاب إلى الأعلى