فوائد الصيام الروحية والتربوية
يقول الله في محكم التنزيل ” وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين” (الذاريات:56/57) فبين ربنا عز وجل أن أسمى مقام للإنسان على ظهر الأرض مقام العبودية لله خالق الأرض والسماوات، وأن أشرف غايات ابن آدم في الحياة الدنيا طاعة ربه عز وجل وعبادته، لأنه تعالى له وحده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله. ولهذا شرع تعالى أصنافا من العبادات وأنواعا من الطاعات حتى يكون الإنسان في كل أحواله عابدا لربه، وفي كل أوقاته طائعا لخالقه عز وجل.
والصيام عبادة خاصة على صفة مخصوصة، ليست كغيرها من العبادات. ولهذا نسب الله تعالى الصيام إلى لنفسه فقال في الحديث القدسي: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ” (صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب هل يقول إني صائم إذا شتم) فهذا تخصيص في مقام التعميم، لأن جميع العبادات والطاعات لله تعالى. والتخصيص في مقام التعميم يفيد التشريف والتعظيم. فنسب الله تعالى هنا الصيام إلى نفسه نسبة تشريف وتعظيم، للتأكيد على أن في الصيام خصائص ليست في غيره من العبادات.
ومن أعظم فوائد الصيام ما يورثه في الصائم من الآثار التربوية والفوائد الروحية والقيم الاجتماعية . وهذه الفوائد هي التي تعكس وصف “التقوى” في قوله عز وجل: ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات” (البقرة:182 ). إن الصيام يحصل به التقوى وهو مخافة الله تعالى وطاعته والوقوف عند حدوده. وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم فوائد الصيام في قوله “والصوم جنة” (صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى ” يريدون أن يبدلوا كلام الله”) أي حفظ وصيانة، وحجاب ووقاية. إن الصيام ترويض للنفس، ورياضة للروح، وتهذيب للقلب.
إن الصيام يورث النفس تقوى الله تعالى ويحملها على الاعتدال والتوسط ويكسر قوى الشر والانحراف فيها، ويمنح للقلب رقة وإشراقا، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر قوة الشهوة والميل إلى الانحراف.
فكيف يكون الصيام مدرسة للتربية والتزكية ؟ وكيف يكون الامتناع عن لذة الأكل والشرب والجماع عبادة روحية وتزكية للنفس والقلب؟
إنها مسألة عظيمة دقيقة يحتاج فهمها واستيعابها إلى معرفة خصائص النفس البشرية وصفاتها، وما ركب فيها من القوى والغرائز. ويتوقف استيعابها على الإحاطة بصفات القلب وأحواله. ولبيان هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بصيغة التنبيه : ” ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وبيت القلب ” (صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن سلوك الإنسان وأعماله الظاهرة يرجع إلى حال القلب، فصفاء القلب وسلامته به يحصل صلاح الإنسان وسلامة سلوكه واستقامة تصرفاته. وبالمقابل فإن فساد الإنسان وانحرافه إنما هو من فساد قلبه وانحرافه. فالقلب عالم عجيب، فهو مستودع الإيمان أو الكفر، ومستقر الخير أو الشر. وإن القلب يعتريه الصلاح والفساد، والصحة والمرض. وكما أن الجسد يحتاج إلى رعاية وصيانة، ورياضة ونظافة ، فكذالك القلب في حاجة دائمة إلى رياضة وتزكية، وصيانة وتربية .لكن رياضة القلب وتزكيته أعظم قدرا وأشد خطرا، لأن تربية الجسد ورياضته لا تفيد شيئا إذا لم يصاحبها زكاة في القلب والنفس. وهذا المعنى الدقيق مما يفهم من قوله تعالى : ” والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها“(الشمس:1-10 ) فأقسم الله تعالى بالنفس وذلك لبيان عظيم شأنها وخطورة أمرها، وقرنها هنا بالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض، للتأكيد على عظمتها وللتنبيه إلى علو قدرها وسمو شأنها.
وفي هذا المعنى أيضا ورد في الحديث : ” إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء. قيل : يا رسول الله وما جلاؤها ؟ قال : ” كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن” (الحديث في شعب الإيمان للبيهقي، وضعف الحافظ العراقي إسناده. ومعناه صحيح لأن حاجة القلوب إلى التزكية بالقرآن وذكر الموت مما ثبت بأدلة كثيرة من القرآن والسنة ).
فانحراف الإنسان من انحراف نفسه وفساد قلبه. وإن من أسباب انحراف القلب ومرض النفس، ما ركب في الإنسان من الميل إلى الشهوات، والنزوع القوي نحو اللذات، كما قال تعالى:” زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب” (آل عمران:14)
فنفس الإنسان تنجذب بقوة إلى اللهو واللعب، وتميل إلى المتعة واللذة بجميع أصنافها، وذلك بسبب ما ركب في الإنسان من الغرائز والشهوات. وهذا ما يؤكده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله ” لو كان لابن آدم واحد من ذهب لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له واديان لابتغي إليهما ثالثا، ولا يأكل جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب” (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال).
وإن الشهوات ولذات الجسد تثقل على النفس وتطوق قلب الإنسان. فإذا غلبت فقد تعطل عقل الإنسان فيتصرف بالشهوة، ويتحرك من أجل اللذة من غير اعتبار لحسن السلوك ولا الخلق، وهذا هو الهوى الذي يسيطر على الإنسان فيجعله عبدا لشهوات نفسه ولذات جسده، فيصير كالبهيمة العجماء كما قال تعالى:” أولئك كالأنعام بل هم أضل” (الأعراف:179). ومن هبط إلى هذه المنزلة السحيقة، وصار مستسلما لشهواته فذلك الضال المنحرف، وذلك سبب ما يحصل في حياة الإنسان من الفساد والشر. وقد حذر الله تعالى الإنسان من هذه الحال فقال تعالى ” أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهده من بعد الله، أفلا تذكرون” (الجاثية:23 ) فبين أن هوى النفس قد يكون في الإنسان بمنزلة إلهه، في شدة سيطرته عليه وقوة توجيهه لسلوكه حتى إنه قد يعطل قوة التفكير والتمييز. وبين الله تعالى كذلك أن ” هوى النفس” يمنع الإنسان من معرفة الخير والاستجابة لداعي الرشاد والهداية فقال تعالى :” فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين“(القصص:50). وبين أيضا أن غفلة القلب تكون من اتباع الشهوات والميل مع هوى النفس فقال عز من قائل : ” ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا” (الكهف:28 ).
فكلما توسع الإنسان في الاستجابة لشهوات نفسه وأطلق العنان للذات جسده، كان أقرب إلى الفساد والانحراف. وإن واقع الحال في الحياة يؤكد ذلك. فكل فساد أو جرم أو انحراف إنما هو بسبب اتباع شهوة جامحة وميل إلى لذة منحرفة عن حد الاعتدال والتوسط. فالسرقة والنهب والاختلاس إنما بسبب الاستسلام لقوة الميل نحو المال وحب التملك، والزنا وهتك الأعراض سببه اتباع شهوة الفرج من غير ضابط ولا وازع.
ولهذا وجب تعهد القلب بالرياضة، والنفس بالتهذيب والصيانة. وهذا سر العناية البالغة في الشريعة بتربية القلوب وتزكية النفوس. وإن إمساك النفس عن تناول اللذات لفترة من الوقت سبيل ناجع من سبل تربية النفس وتهذيبها، لأن الإنسان كلما تناول اللذات باعتدال وتوسط، كان أقرب إلى السلامة في بدنه وصحته، وفي نفسه وقلبه، وفي تصرفه وسلوكه. فالصيام ترويض للنفس على قوة الإرادة، وكسر لقوة الشر فيها، فتنشط الروح وتطمئن النفس لأنها تستريح من عناء الشهوات، وتتحلل من سجن اللذات، فتكون أقرب إلى الخير والصواب. وهذا سر ما يلاحظ في رمضان من إقبال الناس على العبادة ونشاطهم للطاعة، فذلك من آثار الصيام وما يحدثه في أنفسهم من الحرية من أسر الشهوة، وما يأنسون من قلوبهم من النشاط على الطاعة، لأن قوى الشر تضعف بسبب ضعف سلطان الشياطين، لأن الشيطان إنما يقوى سلطانه على من يتبع الشهوات، وهذا ما أخبر عنه الرسول أن الشياطين تقيد في رمضان، وتفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران. قال صلى الله عليه وسلم إِذَا دخل شهر رمَضان فُتِّحَتْ أَبوَاب السَّماء وغُلِّقتْ أبواب جهنمَ وَسُلْسلَت الشَّياطِين” (صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان). وفي لفظ عند الترمذي : ” إِذا كان أَوَّل لَيلة منْ شَهر رَمَضان صُفِّدَتِ الشياطِين وَمَرَدَةُ الْجِن وَغُلقت أَبواب النار فَلم يُفتح منها باب وفتحَت أَبْواب الْجَنَّة فلمْ يُغلَقْ مِنها بابٌ ويُنادِي مُنادٍ يا بَاغِي الْخَيرِ أَقبل ويا باغِي الشر أقصرْ ولِله عتقاء من النّار وذلكَ كل ليلة”
إن شهر رمضان مدرسة عظيمة للتربية والتزكية، وإن الصيام جنة ووقاية وحفظ وصيانة، وتدريب للنفس على السمو في درجات الإيمان، والتلذذ بطاعة الرحمن، ومناجاة الملك الديان، تربية حكيم خبير”يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم، والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا“(النساء:26-27 ).
اللهم وفقنا للصيام والقيام كما تحب وترضى، واغفر ذنوبنا وخلص رقابنا من النار، بفضلك يا كريم يا حليم.