الغيث بعد الجدب والفرج بعد الشدة

بمناسبة نزول الغيث بالمغرب بعد فترة جدب . صفر 1430 ه- فبراير 2009 م

الحمد لله رب العالمين والصلاة على النبي الأمين.

أما بعد، فقد شهدت بلادنا وغيرها من أجزاء الأرض حالة من التحول والانفراج بعد الشدة. فبعد سنين من الجفاف والقحط، قل فيها الزرع واشتد فيها أثر الجدب، إذا برحمة الله تعالى تنشر على العباد، فارتوت الأرض واخضرت أرجاؤها، واكتست حلل الجمال بما خرج منها من ألوان النبات والزهر، فانشرحت الصدور بعد ضيق وعنت، واستبشرت الوجوه بعد قنوط وحزن. وإنها آيات من آيات الله تعالى يتجلى بها على خلقه، من أجل تذكيرهم بعنايته وتنبيههم إلى رحمته ورعايته.

وقد ذكر ربنا تعالى هذه الحقيقة في وحيه، فقال الحق يبارك وتعالى في كتابه العزيز : ” وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ” الشورى(28) إن هذه الآية تتفجر عبرا ومواعظ، وتتلألأ دروسا ودلالات. وإن مصداقها ومعناها يظهر عمليا في الكون حينا بعد حين. يتجلى ذلك فيما يحصل في الكون من التحولات من حال الجدب والجفاف إلى حال الخصب والرخاء. فمن حكمة الله تعالى وتدبيره لأمر الحياة على ظهر الأرض أن نوع أحوال الأرض وصفاتها، ففيها البقعة الخصبة المزينة بأنواع النبات وأصناف الشجر، وفيها البقعة التي لا تنبت عشبا ولا تظهر نباتا كما قال تعالى : ” وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْع وَنَخِيل صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الاكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ” الرعد(4) فمعنى { قطع متجاورات } بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة.

ومن آياته تعالى أيضا تنوع أحوال الأرض وتقلبها بين الجدب والخصب، وبين الشدة والرخاء. والحكمة من وجود الجدب أن يشعر الإنسان بالعجز والحاجة إلى رحمة ربه ويحس بالفقر إلى عناية خالقه ورعايته. فإن الشعور بالفقر إلى الله غنى، لأنه يذكر بالله تعالى، فالإنسان من طبعه البحث عن الملجأ عند الضيق والشدة كما قال تعالى : ” وإذا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار” الزمرِ(8)

وقوله عز وجل : “وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ” (51) فإن النعمة والغنى إذا دام قد يميل بالنفس نحو الشر والانحراف عندما يتوهم الإنسان القوة والاستغناء كما قال تعالى ” كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ” ولهذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يقلبه بين الشدة والرخاء فينزل به من الضيق رحمة به وتربية، وتذكيرا له بعجزه.

ولهذا عبر هنا عن الحالة النفسية التي يكون عليها الناس عندما ينزل بهم القحط والجفاف بالقنوط فقال تعالى : ” وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ” والغيث هو المطر الذي ينزل بعد الحاجة إليه فيحصل به الخصب بعد الجدب. فذكر الله تعالى هنا خلقه بما يجري عليهم في الحياة الدنيا وهم على ظهر الأرض من أحوال الحاجة والعجز، حتى إذا أشعرهم بالفقر والضعف وتسرب إليهم الخوف واليأس جاءهم بالفرج والغيث. ولهذا ذكر هنا صفتي { الولي الحميد } دون غيرهما لمناسبتهما للإغاثة لأن الوليَّ يحسن إلى مواليه والحميد يعطي ما يُحمد عليه. فأخبر تعالى أنه ولي والولي لا يترك مواليه وإنما يتولاهم ويرعاهم ويمدهم بحاجاتهم. وأخبر أنه حميد لأنه لا يكف عن العطاء فيعطي عبيده ومواليه ما يوجب عليهم حمده.

إن تقلب أحوال الأرض بين الجدب والخصب، ونزول الغيث بعد انقطاع مدة من الزمن كما حصل في الأيام الأخيرة فيه من الفوائد والحكم الكثير. فلا ينبغي أن يمر بنا هذا الحدث دون أن نستفيد منه العبر والدروس. فكل ما يحدث في الكون من الأحوال والحوادث كل ذلك بمنزلة إعلانات ناطقة تعرف بالله تعالى وتذكر بقدرته وجلاله تبارك وتعالى.

  • فنزول الغيث بعد الجدب يدل على تدبير الله تعالى لأحوال الكون ورعايته لشؤون العالم وعنايته بأمور خلقه. فلو كان الأمر والتدبير بيد الإنسان لما حصل جدب ولا قحط ولا حدثت شدة ولا عسر.” قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا” الإسراء(100) لكن الأمر والحكم لخالق الإنسان ومليكه ومدبر أمره، فهو الذي يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. فلا أحد من البشر يختار وقت الجدب، ولا أحد من العالمين يعين زمن الغيث، إنما ذلك كله بأمر خالق الأرض والسموات، الذي يملك أمر السحاب والرياح والبحار. فالجدب بأمر الله والغيث بأمر الله، ومن ربطه بالأسباب المادية فقد عطل عقله، لأنه ينسب الأمر العظيم وهو نزول الغيث للطبيعة الصماء، ويعطي الفعل والحكم للأسباب العمياء. والطبيعة مفعول به وليست فاعلا، ونقشا وليست نقاشا، وهي بمنزلة لوحة رسمت بدقة وعناية وليت رساما. فالأسباب المادية المباشرة إنما هي تجلي لأمر الله، فهو الآمر لها. ومن عرف الأسباب المادية عرف بالضرورة أنها مأمورة مسيرة. فلا يجوز أن ينسب الغيث والقحط إلا لله تبارك وتعالى. وقد نبه تبارك وتعالى إلى هذا فقال عز من قائل : وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ” النحل(65) وقال تعالى : ” أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” الحج(.63
  • ومن فوائد الغيث بعد الجدب أيضا التذكير بقدرة الله وأنه المحيي المميت. فإن الله يتجلى لعباده ويعرفهم بنفسه من خلال أفعاله في الكون، ويظهر لهم آثار أسمائه الحسنى ليعرفوها. فيصيبهم بالجدب ويظهر لهم الأرض ميتتة جرداء، ثم يحيها بالماء ليظهر أمامهم قدرته ويقيم لهم الحجة أنه تعالى يحي ويميت، فيعرفوا أن من أسمائه الحسنى المحيي المميت. فإماتة الأرض بالجفاف ثم إحياؤها بالغيث تجربة منضبطة منتظمة، تتكرر أمام البشر عبر الزمان، فتعلن أماهم بالحجة الظاهرة والدليل الواضح القاطع أن الله تعالى الذي يدبر أمر الحياة والكون والإنسان هو وحده الذي بيده أمر الحياة والموت. وإن كل مظاهر الإحياء والإماتة التي تجري في الكون في كل لحظة، إنما هو من تجلي اسم الله المحيي المميت ومن آثارهما. ولهذا ذكر الله تعالى عباده بهذه الحقيقة في القرآن الكريم فقال تعالى “وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” الحج(5)

فبين تعالى أن حياة الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة. فكل حياة في الأرض من الله وكل موت وزوال فمنه وبأمره وقدرته.

  • ولهذا فإن من فوائد الغيث بعد القحط أيضا إقامة الدليل وإظهار التجربة أمام الإنسان على قدرة الله على إماته وبعثه وإحيائه بعد موته. فإن مشهد الأرض وهي مخضرة بشتى أنواع النبات ومزينة بكل أصناف الشجر والكلأ، بعد أن كانت جرداء، يذكر بمشهد يوم القيامة عندما يفنى العالم ثم يأمر الله تعالى بالبعث والنشور فيقوم الناس لرب العالمين فيحيون بعد موتهم. فإن الذي يأمر بحياة الأرض بعد موتها هو الذي يأمر ببعث الإنسان بعد موته. ولهذا ربط بين الفعلين وجمع بين الحدثين فقال تعالى : فقال تعالى : ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” فصلت (39). وقال : ” فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (50) فكما تهتز الأرض بالنبات كذلك تهتز يوم القيامة فيقوم الناس بأجسادهم للعرض الأكبر بين يدي الله تعالى ” وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51)قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) . ( يس)

 

  • وقد ضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا في سرعة زوالها وانقطاع نعمها وأفول زينتها وبهائها بالأرض المخضرة ما تلبث غير حين حتى تصير جرداء. ومعنى ذلك أن تقلب حال الأرض بين الصيف والشتاء مثله تتقلب الحياة بين الدنيا والآخرة. قال تعالى : ” إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” يونس(24). فكما يزول جمال الربيع في الصيف ويذبل بهاء الشجر والنبات في الخريف فكذلك قوة الإنسان وجماله يذهب بالشيخوخة، وجمال الدنيا وزينتها يذهب بإقبال الآخرة لأن كل شيء في الكون يجري عليه الزوال ويمتد غليه الفناء في كل لحظة من غير توقف فتنقص قوى الإنسان كلما تقدم في العمر لحظة بعد لحظة، وينقص عمر الدنيا كلما مضت فترة من الزمان. وما مشكلة ارتفاع حرارة الأرض واضطراب أحولها الجوية إلا مظهر من مظاهر آثار الزوال والفناء تمتد إلى الأرض حينا بعد حين إلى أن يأذن خالق الأرض والسموات بالفناء النهائي والزوال الشامل الكامل فتزول الحياة الدنيا لتبدأ الحياة ألآخرة.
  • ولعل قائلا يقول، إذا كان الغيث بعد الجدب فائدة، فما بال ما يصاحبه من المصائب وما يلتبس به من الكوارث مثل الغرق وهلاك الزرع والضرع والهدم. والجواب أن في ذلك فائدة أخرى وهي أن يحس الإنسان بالعجز والفقر إلى ربه تعالى. وفيه من الفوائد أيضا أن نعرف أن المصلحة الخالصة ليست موجودة في الحياة الدنيا. فكل شيء من أمور الحياة على ظهر الأٍرض وإن ظهرت فيه مصلحة فإنه لا يخلو من مفسدة، وكل مفسدة فإنها لا تخلو من مصلحة. فالطعام مثلا فيه فائدة، لكنه قد لا يخلو من مفسدة عند الإسراف فيه مثلا. فلأن الدنيا دار اختبار وامتحان ولذلك يمتزج فيها الخير بالشر، والعذاب بالنعيم، والمرض بالصحة، والعجز بالقوة، وكل إنسان إلا يتقلب بين هذه الأحوال فمرة في حزن ومرة في سرور، ومرة في شدة ومرة في رخاء.

وحكمة ذلك أن تتميز الدار الآخرة عن الدنيا ، فإن الدار الآخرة يتميز فيها الخير عن الشر وينفصل العذاب عن النعيم كليا ونهائيا، فيجتمع النعيم كله في الجنة، ويجتمع العذاب كله في النار ، فإن نعيما لا مشقة فيه هو الجنة وإن عذابا لا خير فيه هو النار لأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقة الباقية ” وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون”. أما الدنيا فيمتزج فيها الخير بالشر واللذة بالعذاب.

فهذه بعض الدروس والعبر التي تستفاد من حادث مجيء الغيث بعد الجدب والقحط، فلا يملك معها العاقل المنصف سوى أن يتوجه بالشكر إلى ربه تبارك وتعالى على ما أنعم به وتفضل، وما عامل به خلقه من الرحمة والنعمة على رغم مجاهرتهم بالمعاصي. وإن شكر النعمة مؤذن ببقائها وكفرها مؤذن بزوالها لكنها رحمة الله تعالى. ” وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد” (ابراهيم: 9 )

اللهم تولانا برحمتك الواسعة، واشملنا بفضلك الوافر الغامر، واهدنا سواء السبيل، واحفظنا من شر كل ما أنت آخذ بناصيته، وآتنا اللهم في الدنيا حسنة في ألآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا رحمن يا رحيم يا حنان يا منان، يا ويل يا حميد يا لطيف با خبير.

زر الذهاب إلى الأعلى