فقه الحديث في الموطأ
بحث: فقه الحديث في الموطأ
د. عبد الكريم عكيوي. كلية الآداب بأكادير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخاتم النبيئين وعلى آله الطيبين وأزواجه الطاهرين وأصحابه الغر الميامين وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد، فهذا موجز جامع لمعالم فقه الحديث عند الإمام مالك رحمه الله، ومختصر كاشف لمنهجه في الفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمسلكه في العمل بالنسة النبوية وتنزيل أحكامها على المكلف، من خلال كتابه الموطأ، الذي سن به مالك رحمه الله للعلماء ولطلبة العلم مسلك تصنيف السنة، وشق لهم منهج تأليف الفقه.
وإذا كان الشافعي في كتابه ” الرسالة ” أول من حرر بعض معالم فقه الحديث في صفة قواعد وأصول، فإن مالكا قبله أول من أعملها منهجا في التصنيف، فكانت قواعد شرح السنة وفقه الحديث تجرى عنده في الموطأ في نظره في السنة، وهو وإن لم يفصح عنها قواعد محررة، فقد أعملها وصار عليها في التصنيف.
فالموطأ أنموذج أعلى في التصنيف الحديثي والفقهي، والتأليف بين علم الحديث القائم على النقد وبين الفقه القائم على قواعد الاستنباط. وما اختل نظام الفقه في العصور المتأخرة إلا بالمحدث يتكلم في الفقه وهو ينبو عن أصول الفقه وقواعد الاستنباط، وبالفقيه يتجافى عن النقد وقواعد التصحيح والتضعيف فيمتزج له في الاستدلال بالأخبار الغث بالسمين. ولهذا فرق العلماء منذ البداية بين العارف بالحديث الناقد له المميز بين مراتبه في الصحة والضعف وبين العارف بالحديث من جهة فقهه وأوجه العمل به وتنزيله على أحوال المكلف.
إن الغاية المرجوة من علوم الحديث وقواعد النقد أن يسلم الحديث من أسباب الضعف ليصلح به الاحتجاج، فإذا تم ذلك جاء دور الفهم والفقه، ثم دور العمل والتنزيل. ولهذا فإن فقه الحديث قدر زائد على علم الحديث الذي يختص بالنقد. وإن إتقان النقد الحديثي لا يكفي لحسن الفهم وسلامة الفقه. وأصل هذا التمييز بين الحديث والفقه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ” نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه” (أخرجه الشافعي في الرسالة، والترمذي في الجامع) ففرق النبي صلى الله عليه وسلم في العلم بالحديث بين الحفظ وبين الوعي، وبين حامل الحديث وبين الفقيه في الحديث، فدل ذلك على أن فقه الحديث قدر زائد على حفظ الحديث، ودل على وجوب فقه الحديث وأنه الغاية المرجوة من علم الحديث الذي هو وسلية إليه مع أصول الفقه وقواعد الاستنباط. قال علي بن المديني : ” التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم” (المحدث الفاصل ص320). و قال الحاكم النيسابوري بعد أن ذكر من أنواع علم الحديث ما يتعلق بتصحيح الحديث : ” معرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم وبه قوام الشريعة”(معرفة علوم الحديث. النوع العشرون).
وروى الرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص248-249 ) أن امرأة وقفت على مجلس فيه يحيى بن معين وأبوخيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث، فسمعتهم يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه فلان، وما حدث به غير فلان، فسألتهم المرأة عن الحائض تغسل الموتى، وكانت غاسلة، فلم يجبها أحد منهم، فأقبل أبو ثور (من أصحاب الشافعي وأحد أئمة الدنيا فقها) فقيل لها عليك بالمقبل، فالتفتت إليه وقد دنا منها، فسألته فقال: نعم تغسل الميت، لحديث عثمان بن الأحنف عن القاسم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : “أما حيضتك ليست في يدك” ، ولقولها “كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء وأنا حائض” قال أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحي بالماء فالميت أولى به، فقالوا نعم، رواه فلان ونعرفه من طريق كذا، وخاضوا في الطرق والروايات، فقالت المرأة فأين كنتم الآن؟”
فلا يكون فقيها في السنة إلا من عرف وجوه دلالاتها، ومسالك العمل بها، وطرق تنزيلها على محالها، بعد أن يمحض الصالح للاستلال من غيره. وعند المفاضلة كان العلماء يقدمون من جمع بين الرواية والدراية ولو مع نزول في الإسناد. عن عبد الله بن هاشم الطوسي قال كنا عند وكيع فقال الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله (يعني ابن مسعود) أو سفيان عن منصور عن إبر اهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقلنا الأعمش عن أبي وائل أقرب. فقال : الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ (يعني في رواية الحديث) وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه.”(المحدث الفاصل ص 238 ) وفي رواية الحاكم زيادة ” وحديث يتداوله الفقهاء خير من أن يتداوله الشيوخ”(معرفة علوم الحديث النوع الأول)
ولقد كان الإمام مالك رحمه الله في المقام الأعلى من الحديث رواية ونقدا، وفي المكان الأسمى من الفقه والدراية.
ولقد اختلف العلماء في إمامة أبي حنيفة في رواية الحديث، بعد أن أجمعوا على إمامته في الفقه، واختلفوا في إمامة أحمد بن حنبل في الفقه بعد اتفاقهم على إمامته في الحديث، أما مالك رحمه الله فاتفقوا جميعا على أنه إمام في ذلك كله جامع بين الحديث والفقه. ففي ترتيب المدارك أن عبد الرحمن بن مهدي سئل عن الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس فقال :”الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما.” ومعنى السنة هنا المعرفة بوجوه العمل ومسالك التنزيل وهي متفرعة عن الفقه.
الموطأ مدونة في فقه السلف من الصحابة والتابعين بالمدينة:
حفل الموطأ بالشرح والبيان للأحاديث، وخاصة منها المشكلة في ظاهرها بسبب ما فيها من الإطلاق والإجمال. ويحرص رحم الله على شروح الصحابة والتابعين قبل أن يذكر ما يترجح في نظره. ولهذا فالموطأ مصدر لأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ولعمل الخلفاء الراشدين خاصة عمر وعثمان، لطول مدتهما بالمدينة وهي دار السنة ودار الخلافة، وكان يوردها في سياق الشرح والبيان، أو التقييد أو التخصيص للأحاديث النبوية. ويحرص من ذلك على ما كان عملا مستمرا وسنة ظاهرة يجتمع عليها الناس، ويؤتم فيها بالخلفاء، أو يكتب فيها الخلفاء إلى ولاتهم، ونحو هذا من القرائن الدالة على اشتهار المسألة، ولو تكلم بها واحد من الصحابة أو من التابعين بالمدينة. ولهذا الوجه حرص على نقل أقوال الفقهاء السبعة بالمدينة لأن فقههم جماع فقه الصحابة بالمدينة. فبنقله عن الخلفاء والصحابة والتابعين بالمدينة على هذه الصفة، يقيم الأحكام على أدلة قوية معتبرة، ترجع في أصلها إلى السنة النبوية العملية، فكان يستغني بها إذا لم يوجد نقل مرفوع قوي في دلالته في المسألة، وقد يفسر بها المرفوع فيقيده إن كان مطلقا ويبينه إن كان مجملا.
من ذلك مثلا في بيان وقت الجمعة، لم يخرج حديثا مرفوعا لأن دلالة الأحاديث ليست نصا في المسألة، واقتصر على عمل الخليفتين عمر وعثمان، فأخرج حديث طنفسة عقيل بن أبي طالب التي كانت تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة ظل الجدار، خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. ثم أورد عن عثمان بن عفان أنه صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل. قال مالك” وذلك للتهجير وسرعة السير”. ووجه ذلك أن الأخبار في التعجيل بالجمعة يفهم منها جواز إيقاعها قبل الزوال، فأورد مالك هنا من عمل الخليفتين ما ينفي ذلك وأن وقت الجمعة وقت الظهر، أوله عند زوال الشمس. قال ابن عبد البر : ” “أدخل مالك هذا الخبر دليلا على أن عمر بن الخطاب لم يكن يصلي الجمعة إلا بعد الزوال، وردا على من حكى عنه وعن أبي بكر أنهما كانا يصليان الجمعة قبل الزوال، وإنكاراً لقول من قال: إنها صلاة عيد، فلا بأس أن تصلى قبل الزوال… ولهذا ومثله أدخل مالك حديث طنفسة عقيل ليوضح أن وقت الجمعة وقت الظهر؛ لأنها مع قصر حيطانهم وعرض الطنفسة لا يغشاها الظل إلا وقد فاء الفيء، وتمكن الوقت وبان في الأرض دلوك الشمس”( الاستذكار…..)
وفي باب ” من أدرك ركعة من الصلاة ” من كتاب الوقوت، أخرج حديث ” من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة” ثم عطف عليه من أقوال عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة، وكلهم كانوا بالمدينة، ما يبين أن إدراك الركعة يكون بإدراك الركوع، فالحديث المرفوع مع أقوال هؤلاء بمجموعها عنده هو الدليل. وفي وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة أخرج حديث ” إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده …الحديث” ولبيان النوم الموجب للوضوء أورد قول عمر ” إذا نام أحدكم مضطجعا فليتوضأ” وعن ابن عمر أنه كان ينام جالسا ثم يصلي ولا يتوضأ”.
ولهذا فموطأ مالك جامع لفقه السنة القائم على الحديث المرفوع، ثم على عمل الخلفاء الراشدين بالمدينة، يضاف إليهم عمر بن عبد العزيز، وعلى فهم الصحابة وفتاواهم، وعلى فقه التابعين بالمدينة ومنهم الفقهاء السبعة، فهو مدونة لحديث أهل المدينة وفقههم زمن السلف الصالح. فعلى هذا كله أقام مالك رحمه علمه وفقهه، وبنى منهجه عليه في فقه الحديث وفهم السنة النبوية، وزاده بيانا وتفصيلا، وترتيبا وضبطا فاجتمعت قواعد فقه الحديث عنده في صحة النقل، والسلامة من المعارضة، والفهم على مقتضى الدلالة.
جماع فقه الحديث عند مالك : صحة النقل، والسلامة من المعارضة، والفهم على مقتضى الدلالة:
يمكن جمع قواعد فقه الحديث عند مالك رحمه الله في الموطأ في ثلاثة أصول جامعة هي: صحة النقل، والسلامة من المعارضة، والفهم على مقتضى الدلالة. وكل أصل من هذه الأصول الثلاثة يرجع إلى علم مستقل. أما صحة النقل فتكون بتحكيم علوم الحديث وأصول النقد، وتتم سلامة الحديث من المعارضة بالاعتبار وبقواعد التعارض والجمع أو الترجيح مما هو مبسوط في كتب أصول الفقه ومصادر مختلف الحديث، وأما الفهم على مقتضى الدلالة فيكون بتحكيم قواعد الدلالات التي تجري عليها الألفاظ وهي أهم المباحث وأجل القواعد في أصول الفقه وما يتعلق بها من علم المقاصد.
وهذه الأصول الثلاثة في فقه الحديث موضع إجماع عند العلماء، وإنما حصل الاختلاف في ما تفرع عن هذه الأصول. ولهذا فإن منهج العلم يقضي أن يميز طالب العلم بين هذه القواعد الأصول المتفق عليها وبين فروعها المختلف فيها، ويعرف ما انفرد به كل إمام من تلك القواعد، وإلا حصل الخبط والاضراب.
صحة النقل:
أول ما يجب في فقه السنة أن يبلغ الحديث درجة الاحتجاج بالانفراد أو الاعتضاض. وهذه فائدة تحكيم قواعد النقد الحديثي. ومن هذه الجهة فإن مالكا رحمه الله إمام في النقد، عارف بقواعد التصحيح والتضعيف، خبير برجال الحديث ونقلة الأخبار، عليه المعول في ذلك كله. وكتابه الموطأ صحيح في الجملة، وما فيه ممالم يتصل من المنقطع والمرسل والبلاغ لا يؤثر في هذه المكانة لأن له وجها عند مالك رحمه الله. فما من خبر يوجد فيه من ذلك إلا إذا تدبرته وجدته يندرج في سياق صحيح وألفيته يتفرع عن معنى سليم. قال الشافعي رحمه الله : ” ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطأ مالك بن أنس”.(التمهيد1/…) ولهذا صنف ابن عبد البر كتابه التمهيد وقال في مقدمته : ” ووصلت كل مقطوع جاء متصلا من غير رواية مالك، وكل مرسل جاء مسندا من غير طريقه رحمة الله عليه، فيما بلغني علمه وصح بروايتي جمعه، ليرى الناظر في كتابنا هذا موقع آثار الموطأ من الاشتهار والصحة، واعتمدت في ذلك على نقل الأئمة ومارواه ثقات هذه الأمة”(التمهيد1ص15 ).
ومما ينبغي تحريره هنا أن مالكا رحمه الله يدخل عنده في الصحيح المقبول للاحتجاج، مثل الخبر المتصل الصحيح، العمل الظاهر المتوارث بالمدينة، والخبر المرسل الذي يرسله الثقة، وأقوال الصحابة خاصة الذين أقاموا بالمدينة ممن يرجع إليهم الناس وكانوا قدوة لهم لسنين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمن التابعين، وكذا عمل الخلفاء بالمدينة. فهذه أنواع أربعة من الخبر الصحيح المحتج به، هي عنده من النقل الصحيح، لا تنزل في قوتها عن المرفوع المتصل الصحيح، بل هي راجعة إليه، واكتسبت قوتها بتعلقها بالمدينة التي هي دار السنة، وباتصالها بزمن النبوة بالنسبة للصحابة وبقربها منه بالنسبة للتابعين.
العمل الظاهر : فما تتجدد الحاجة إليه من الأحكام، ويجري على التصرفات، ويعلن على رؤوس الأشهاد، ويعاينه الخاص والعام، ويتولاه الخلفاء وولاتهم بالمدينة في زمن مالك وهو عهد أتابع التابعين، إنما هو وراثة منقولة لم يتوقف العمل بها منذ العهد النبوي، وهي من الشهرة والفتوى بها من قبل العلماء بالمقام الذي ينفي عنها احتمال التغيير، وللناس من التعلق بها ومتابعتها ما يبعدها عن التبديل. فعلى هذا الوجه كان العمل الظاهر بالمدينة دليلا قويا عند مالك أقوى من خبر الآحاد الصحيح. وعلى هذا الوجه يقول سفيان بن عيينة (وهو إمام أهل مكة زمن أتباع التابعين) :” من أراد الإسناد والحديث المعروف الذي تسكن إليه القلوب فعليه بحديث أهل المدينة” (التمهيد1ص61-62) ويقول الشافعي: ” إذا وجدت متقدم أهل المدينة على شيء فلا يدخل عليك شك أنه حق.”(التمهيد1ص62 ). ويقول عبد الرحمن بن مهدي : ” السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث…”(التمهيد1ص62). وكان مالك يقول: ” كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى وأن يعملوا بما عندهم…كان أبو بكر بن حزم على قضاء المدينة، قال وولي المدينة أميرا وقال له يوما قائل: ما أدري كيف أصنع بالاختلاف فقال له أبو بكر بن حزم : إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك فيه أنه الحق”(التمهيد1ص62-63).
ولهذا كان اعتماد العمل الظاهر دليلا قويا عند مالك لبناء الأحكام، كما تبنى على خبر الآحاد. وللعمل الظاهر من القوة ما جعل مالكا يعتمده في بيان مجملات الأحاديث، ومقدما على نقل الآحاد الصحيح عند التعارض. وفي وجه ذلك أيضا يقول ابن عبد البر في شرحه حديث الساعات الخمس يوم الجمعة بعد نقله مذهب مالك فيها وأنها ساعة واحدة تليها الصلاة، فيها هذه الساعات: ” والذي قاله مالك تشهد له الاثار الصحاح من رواية الأئمة، ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده، وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر متردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء”(الاستذكار5ص12 ).
المرسل : وكان مالك رحمه الله أيضا يرى الاحتجاج بمرسل الثقة، وهو مذهب غير واحد من العلماء. قال ابن عبد البر : ” وأما الإرسال فكل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك لم يحتج بما أرسله، تابعيا كان أو من دونه، وكل من عرف عنه أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول.” (التمهيد1ص29 ) ويقول أيضا :” وأصل مذهب مالك رحمه الله، والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين أن مرسل الثقة تجب به الحجة ويلزم به العمل، كما يجب بالمسند”(التمهيد 1ص11) وفي كلامه على خبر الواحد العدل قال:” فجملة مذهب مالك في ذلك العمل بمسنده ومرسله ما لم يعترضه العمل الظاهر ببلده.” (التمهيد1ص11 ). وعلى هذا الوجه أورد رحمه الله كثيرا من المراسيل في الموطأ.
أقوال الصحابة وعمل الخلفاء : وأما عمل الخلفاء وأقوال الصحابة بالمدينة فإنها عند مالك سنة صحيحة، وقد تقدم بعض الأمثلة على ذلك، في اعتماده عليها في تقرير الأحكام، ويعتمدها في تقييد السنن المرفوعة وبيانها. ففي الهبة للولد أخرج أولا خبر والد النعمان بن بشير وظاهره منع تخصيص الولد بالهبة من بين غيره من الأبناء، ثم أورد بعده عمل أبي بكر الصديق مع ابنته عائشة، ثم قول عمر بن الخطاب، ليدل على أن هذا المنع ليس مطلقا وإنما يجوز لمصلحة وحاجة معتبرة، وليدل على شرط من شروطها وهي الحيازة قبل وفاة الواهب.
السلامة من المعارضة:
وهذا المسلك في فقه الحديث محل اتفاق وموضع إجماع عند العلماء، وإنما اختلفوا في تفاصيل العمل به وتنزيله، فتظهر المعارضة لبعضهم دون بعض، وبعضهم يهتدي إلى وجه الجمع والتأليف فيضع كل دليل موضعه، والآخر لا يرى إلا التعارض فيرجح. وفي تنزيل مسلك السلامة من المعارضة في فقه الحديث انفرد مالك رحمه الله عن غيره ببعض قواعد تنزيله. من ذلك انفراده بالمقابلة بين خبر الآحاد الصحيح وبين العمل الظاهر المشهور المتوارث بالمدينة، والمقابلة بين خبر الآحاد الصحيح والكليات القطعية. وترتب عن هذا انفراده رحمه الله عن غيره بأحكام فقهية. ومن لم يستوعب هذا المسلك سارع إلى إطلاق القول بمخالفة مالك والمالكية للحديث الصحيح. قال الرامهرمزي : ” وليس يلزم المفتي أن يفتي بجميع ما روى، ولا يلزمه أيضا أن يترك رواية ما لايفتي به، وعلى هذا مذاهب جميع فقهاء الأمصار، هذا مالك يرى العمل بخلاف كثير مما يروى….”(المحدث الفاصل ص 322 ) وليس ذلك قصدا منه إلى مخالفة الصحيح، وإنما لقيام الدليل المعارض له عنده لخبر الواحد، فيرجح عليه غيره، فهو هنا إنما أعمل قاعدة الترجيح لظهور التعارض بين دليلين صحيحين، وهي قاعدة محل اتفاق، وإنما اختلف في صفة الدليل الذي يصلح معارضا، فانفرد مالك رحمه الله، من بين الأئمة، بدليل العمل الظاهر بالمدينة، وبدليل الأصول والكليات، فليس عنده الأخذ بخبر الآحاد الصحيح بأولى من العمل الظاهر ومن القاعدة الكلية المنصوصة في القرآن والمبثوثة في فروع الشريعة.
ففي معارضة خبرالآحاد بالعمل وتقديم العمل يقول ابن عبد البر : ” ولا يرى العمل بحديث خيار المتبايعيين ولا بنجاسة ولوغ الكلب، ولم يدر ما حقيقة ذلك كله لما اعترضهما عنده من العمل.” (التمهيد1ص11 ).
وقابل الأحاديث في صلاة من دخل والإمام يخطب بالعمل الذي نقله عن عمر أنهم في زمانه يصلون يوم الجمعة حتى يخرج فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذمون (قال ثعلبة) جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد.” وبما قال ابن شهاب : ” فخروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام” قال ابن عبد البر : ” وهذا كله يدل على أن الأمر بالإنصات ليس برأي، وإنما هو سنة يحتج بها كما احتج ابن شهاب، لأن قوله ” خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام” خبر عن علم علمه لا عن رأي اجتهده، وهو يرد عند أصحابنا حديث جابر وحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك سليكا الغطفاني وغيره (ثم حكى ابن عبد البر قول مالك ومن وافقه أنه يجلس ولا يركع ثم قال ) لحديث ابن شهاب هذا، وهو سنة وعمل مستفيض في زمن عمر وغيره” (الاستذكار5ص49 -50 ).
وفي كتاب الرضاع رد حديث عائشة في تحريم خمس رضعات وقد رواه بسند صحيح ومن طريقه أخرجه مسلم في الصحيح، وقال مالك عقبه : ” وليس على هذا العمل”.
ومن أمثلة قاعدته في المقابلة بين الحديث وبين الكليات قوله رحمه الله بمنع الصوم عن الميت مع ورود الخبر الصحيح ” من مات وعليه صيام صام عنه وليه”(متفق عليه) ومقتضى نظر مالك رحمه الله أن هذا الحديث ليس وحده دليلا في المسألة وإنما لابد من الاعتبار بغيره من القرآن والسنة مما له تعلق بالموضوع مثل قوله تعالى ” وأن ليس للإنسان إلا ما سعى “(النجم/39) وقوله تعالى : ” ولا تزر وازرة وزر أخرى” وقوله تعالى : ” كل نفس بما كسبت رهينة” وحديث ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله… الحديث” فالحاصل في نظر مالك تعارض دليلين في المسألة، فآثر الترجيح فقال بمقتضى القرآن الكريم، لأن عدم صحة الإنابة في العبادات مقرر في سائر العبادات مع اتفاقه مع ظاهر القرآن الكريم والأحاديث الأخرى. فمن احتج على مالك بترك الحديث وهو صحيح، احتج عليه مالك بتركه آيات وأحاديث، وليس التوقف في خبر الواحد الصحيح بأولى أن يوصف بالمخالفة والغلط من مخالفة آيات القرآن. ويزيد ذلك قوة عنده أن عبد الله بن عمر وهو من فقهاء الصحابة بالمدينة كان يقول بذلك، ولهذا أورد مالك خبره في الموطأ في كتاب الصيام في باب النذر والصيام عن الميت، أنه رضي الله عنه كان يسأل هل يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول : ” لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد”. يقول ابن العربي : ” قال علماؤنا: لا يصلي أحد عن أحد باتفاق فرضا ولا نافلة، حياة ولا موتا، وكذلك الصيام فإنه لا يصومه أحد عن أحد. ثم إن الناس أطلقوا الأحاديث في الاحتجاج بذلك، فقالوا ثبت في الصحيح أنه قال :من مات وعليه صيام صام عنه وليه، وعن ابن عباس أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأقضيه عنها …إلى قوله : فدين الله أحق أن يقضى. وهذه الأحاديث تعارض القرآن المطلق، وعموم القرآن المقطوع به أولى من الحديث المطلق. ويعارضه أيضا قوله عليه السلام : إذا مات الميت انقطع عمله”(المسالك4/ 221 ).
ومن منهجه إعمال الدليلين كل بحسبه من جهة درجة الثبوت والدلالة، كما فعل في سجود السهو (كتاب الصلاة باب ما يفعل من سلم في ركعتين ساهيا) قال: ” كل سهو كان نقصانا من الصلاة فإن سجوده قبل السلام، وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام.” وذهب إلى أن من خالف ذلك فلا شيء عليه لأن الأحاديث فيها السجود قبل السلام وبعده، وليس فيها من قوة الدلالة ما يدل على سبب التفريق، فقال مالك رحمه الله بأحد الوجوه المحتملة للتفريق بين الحالتين وجعل كل حديث في موضعه مع إبقاء صحة الاحتمالات الأخرى وهذا عين الفقه.
ومثله فعل في صفة التيمم، فقد جاءت الأحاديث على وجهين أحدهما فيه الضربتان والمرفقان، والآخر الضربة الواحدة والكفان، وجاء عن ابن عمر المرفقان وهو الذي نقله مالك في الموطأ. وجمع رحمه الله ذلك كله وأعمله فجعل الحد الأدنى فريضة وهو الضربة الواحدة والكفان لصحة خبرهما، وما زاد عليه وهو الضربة الثانية والمرفقان سنة، لعمل ابن عمر به ولورود الأحاديث فيه وإن كانت دون الأول في الصحة فإن خبر ابن عمر يؤيدها، فأعمل الدليلين كل بحسبه في الصحة. فمن اعترض عليه بصحة حديث الضربة والكفين قيل له قد جعله فريضة، ومن اعترض عليه بضعف أحاديث الضربتين والمرفقين قيل له يؤدها عمل الصحابة ومنهم ابن عمر هو قد جعلهما سنة وفرضا.
الفهم على مقتضى الدلالة :
ومعناه تحكيم قواعد دلالات الألفاظ وأصول الاستنباط. وإن دلالات الألفاظ ليست على وزن واحد من جهة إفصاحها عن المعنى. ومن تنكب في فقه السنة عن ذلك أخطأ السنة، لأن الأمر بالسنة أمر بإعمال قواعد فهمها، لأن الأمر بالشئ أمر بوسيلته التي يتوقف عليها. ولهذا فإعمال أصول الاستنباط وتحكيم قواعد الدلالات واجب بوجوب السنة. وقد جمع الأصوليون قواعد الدلالات في قسمين عامين هما المنطوق والمفهوم، وتتفرع عن كل قسم قواعد كثيرة وليس هنا موضع تفصيل ذلك، وإنما الغرض بيان قيام فقه الحديث في الموطأ على هذه القواعد من خلال بعض الأمثلة التي تكفي شاهدا على أن قواعد الدلالات كانت حاضرة بقوة عند مالك وهو ينظر في نصوص الأحاديث النبوية بقصد فهمها والاستدل بها.
ففي لفظ الأمر وهو في أصله يفيد الوجوب، نجد مالكا رحمه الله ينقله من هذا الأصل إلى غيره لدليل يقتضي ذلك. فحمل دلالة الأمر على الاستحباب في قوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتن قبل أن يجلس ” قال مالك ” وذلك حسن وليس بواجب” (كتاب الصلاة، باب انتظار الصلاة والمشي إليها).
وتعليقا على حديث : ” أولم ولو بشاة ” قال ابن عبد البر: ” وفي هذا الحديث دليل على أن الوليمة من السنة لقوله أولم ولو بشاة …ولو كانت واجبة لكانت مقدرة معلوما مبلغها كسائر ما أوجب الله ورسوله من الطعام في الكفارات وغيرها…فلما لم يكن مقدرا خرج من حد الوجوب إلى حد الندب، وأشبه الطعام لحادث السرور كطعام الختان والقدوم من السفر وما صنع شكرا لله عزوجل. وقال أهل الظاهر الوليمة واجبة فرضا…” (التمهيد1ص488-489 ). وابن عبد البر هنا يقرر قاعدة عند مالك في دلالات الأمر وما يخرجه من الوجوب إلى الندب وهي أن ” الأمر إذا تعلق بإطعام أو نفقة غير مقدرة ولا معلوم مبلغها فهو على الندب.”
ونجد عند مالك مسلك التأويل الذي هو حمل اللفظ الظاهر المتعدد الاحتمالات على غير ظاهره المتبادر منه. وهو وإن لم يفصح عنه باصطلاحه ولم يقرره قاعدة نظرية، فإن تصرفه في الموطأ يدل على أن صورته حاضرة عنده.
ودليل ذلك ما فعل في غسل الجمعة فأخرج حديث أبي سعيد مرفوعا :” غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم “. وأورد خبر أبي هريرة قال : ” غسل الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الجنابة”. وأخرج معهما قصة الذي دخل على عمر وهو يخطب وقد توضأ ولم يغتسل”. وإنما راعى في ذلك بيان دلالة الأمر وصيغة الوجوب الوادرة في الحديث لئلا تحمل على ظاهرها. قال ابن عبد البر : ” هذان الحديثان ظاهرهما الوجوب الذي هو لازم…ولكن المعنى فيهما غير ظاهرما بالدلائل الموجبة إخراجهما عن الظاهر”(الاستذكار5 ص17-18 ). ونقل ابن عبد البر عن ابن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة واجب هو؟ قال : هو سنة ومعروف. قيل له: إنه في الحديث واجب، قال : ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك” (وفي رواية أشهب) قال ” هو حسن وليس بواجب”(الاستذكار5ص32 ).
بيان الإجمال وتقييد الإطلاق : قال مالك وإنما نهي عن القعود على القبور فيما نرى للحاجة.
الأخذ بالمفهوم :
كتاب الجمعة، باب فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة، عن ابن شهاب أنه كان يقول : من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى. …قال مالك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة” قال ابن عبد البر: ” قوله “من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة” – وقد أجمعوا على أن إداركها بإدراك الركوع مع الإمام- دليل على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدركها، هذا مفهوم الخطاب، ومن لم يدركها لزمه أن يصلي ظهرا أربعا”(الاستذكار5ص67).
في حديث الذي أفطر في رمضان من جماع فأمره الرسول صلى الله عليه وسلام بالكفارة، فجعل مالك الكفارة للمسكوت عنه في الحديث وهو من تعمد الفطر بالأكل أو الشرب، فحكم للمسكوت عنه بحكم المنطوق من باب الموساوات والموافقة في هتك حرمة الشهر. قال ابن العربي : ” الفطر يكون بأحد ثلاثة أشياء : بداخل وهو الأكل والشرب، والإيلاج وهو مغيب الحشفة في الفرج، أو بخارج وهو المني والحيض. فإذا وجد شيء من ذلك في أيام رمضان فسد الصوم، سواء كان لعذر أو لغير عذر…وأما غير المعذور فإن الكفارة تلزمه تلزمه بذلك كله عند مالك على أي وجه كان فطره من العمد أو الهتك لحرمة الصوم” (المسالك4/195-196)