قبس من السيرة النبوية الشريفة: الشمس والقمر آيتان يعتبر بهما العباد
إن الناظر المتدبر بإنصاف، والفاحص المتأمل بإمعان لسيرة الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليجدنها أوضح سيرة وأبينها وأعظمها، لأعظم رجل عرفه التاريخ البشري، وأشرف بشر مر على ظهر الأرض. فمواقفه وأعماله، وتصرفاته وأفعاله، تدل على أنه رسول رب العالمين حقا وصدقا. ولهذا ذكر العلماء أن سيرته صلى الله عليه وسلم- لمن تدبرها وعرفها حق المعرفة- تقتضي تصديقه ضرورة، وأنه لو لم يكن له معجزة ولا دليل على صدقه غير سيرته لكفى. فدلائل النبوة ظاهرة في سيرته، تدعو كل عاقل منصف ليضعها موضع الخبرة والتجربة.
فمن رعاية الله تعالى لرسوله أنه أبقى سيرته محفوظة واضحة بينة، ميسرة ناصعة على مر العصور والأزمان، لتكون حجة على العالمين، وتبقى عبر العصور مجالا واسعا للدراسة والنظر، والبحث والتدبر.
ونسوق هنا موقفا من سيرته صلى الله عليه وسلم، يوقفنا على حقيقة هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الموقف له دلالات عظيمة وفوائد جليلة، يستنبطها كل إنسان ينظر بعين الإنصاف والتجرد من نوازع الهوى.
ففي يوم من الأيام – لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة – حصل كسوف للشمس، وكان كسوفا كليا، لأن من وصفه من الصحابة وصف الشمس أنها تحولت عن أصلها وتغير لونها حتى اسودت وأظلمت. وفي هذا اليوم نفسه الذي حصل فيه الكسوف مات إبراهيم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس إن الشمس كسفت لموت إبراهيم يظنون أن ذلك حزن أصابها وأسف نزل بها، فأسودت وحزنت فكأنها في عزاء.
ولقد سمع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما قال الناس فقام فصلى بهم ثم قام فخطب فيهم خطبة طويلة كان أول ما قال فيها : ” أما بعد فإن رجالا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وإنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده”.
ففي صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الدعاء في الكسوف، من حديث الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ.”
وفي مسند أحمد عن ثَعْلَبَة بْن عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ شَهِدْتُ يَوْمًا خُطْبَةً لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه فَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَيْنَا أَنَا وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ نَرْمِي فِي غَرَضَيْنِ (أي نلعب فنرمي في هدفين لنصيبهما) لَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ اسْوَدَّتْ حَتَّى آضَتْ(أي تحولت ورجعت إلى حالها) كَأَنَّهَا تَنُّومَةٌ (نوع من النبات أسود) قَالَ فَقَالَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَاللَّهِ لَيُحْدِثَنَّ شَأْنُ هَذِهِ الشَّمْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ حَدَثًا قَالَ فَدَفَعْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بَارِزٌ قَالَ وَوَافَقْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَاسْتَقْدَمَ فَقَامَ بِنَا كَأَطْوَلِ مَا قَامَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا ثُمَّ رَكَعَ كَأَطْوَلِ مَا رَكَعَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فَوَافَقَ تَجَلِّيَ الشَّمْسِ جُلُوسُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ … فَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي قَصَّرْتُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ لَمَا أَخْبَرْتُمُونِي ذَاكَ فَبَلَّغْتُ رِسَالَاتِ رَبِّي كَمَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبَلَّغَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بَلَّغْتُ رِسَالَاتِ رَبِّي لَمَا أَخْبَرْتُمُونِي ذَاكَ. قَالَ فَقَامَ رِجَالٌ فَقَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ رِسَالَاتِ رَبِّكَ وَنَصَحْتَ لِأُمَّتِكَ وَقَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ ثُمَّ سَكَتُوا ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رِجَالًا يَزْعُمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هَذِهِ الشَّمْسِ وَكُسُوفَ هَذَا الْقَمَرِ وَزَوَالَ هَذِهِ النُّجُومِ عَنْ مَطَالِعِهَا لِمَوْتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا وَلَكِنَّهَا آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَعْتَبِرُ بِهَا عِبَادُهُ فَيَنْظُرُ مَنْ يُحْدِثُ لَهُ مِنْهُمْ تَوْبَةً وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ قُمْتُ أُصَلِّي مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ فِي أَمْرِ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا آخِرُهُمُ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ…”
فما أعظم هذا الموقف وما أعظم فوائد ودلالاته.
فمن دلالاته العظيمة أن محمدا لا يمكن أن يكون إلا رسولا يبلغ أمر رب العباد العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا تصرف خارج زمانه وفوق مكانه. فلو كان محمد كاذبا مخادعا- كما يدعي خصومه – لكانت هذه الواقعة فرصة سانحة له ليعلن أمام أعدائه وخصومه أنه مؤيد مآزر من جميع المخلوقات، ولقال لهم: أنظروا- أنتم الذين تكذبون نبوتي- هاهي الشمس قد أصابها الحزن لموت ولدي، فهذا دليل على مكانتي ونبوتي.
فقانون العادة البشرية أن من يدعي أمرا هو فيه كاذب، يحاول أن يحشر كل الأدلة ليثبت دعواه. لكن محمدا لم يكن أبدا كذلك، لأنه لا ينطق عن الهوى ” وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ” (النجم:3-4).
فاعتقاد حزن الشمس وغيرها من المخلوقات لموت أحد من البشر، أو فرحها لمولده، انحراف في التفكير، وزيغ عن حقيقة الحياة والكون، فكان لابد له من بيان الحق في ذلك ورد الأمر إلى نصابه ووضع الحقائق في موضعها الصحيح.
ومن فوائد هذه الواقعة أيضا أن من قواعد الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، نبذ الخرافة والرجم بالغيب. فقد كان مجتمع الجاهلية يربط بين مواليد السادة والعظماء وبين النجوم والكواكب، ولهذا ظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن كسوف الشمس لموت إبراهيم، لكن محمدا – وهو رسول رب العالمين – لا يمكن أن يقر هذا الانحراف، ولهذا انبرى للرد على ذلك فبين صلى الله تعالى وسلم أن الكون بجميع أجزائه، إنما خلقه الله تعالى بالحق والعدل، وأنه خاضع لميزان ونظام دقيق لا يتخلف، فللشمس والقمر والنجوم والكواكب قانونها، وللإنسان في مولده ووفاته نظام وقانون، ولا صلة لهذا بذلك، كما قال تعالى :”وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (يس:37-40 )
وقوله :” إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.” (الأعراف:54 ). وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم هنا ” وإنهم قد كذبوا إنما هي آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بين عباده.”
إن العاقل المنصف ليعرف أن محمدا- في هذا الموقف إنما هو مبلغ عن رب العالمين.” وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”.