العداوة والاختلاف شر عظيم ومعصية في الدين والوحدة الائتلاف فريضة وضرورة
إن من المعضلات الخطيرة، التي كان لها الأثر الكبير في ما أصاب المسلمين في العصر الحاضر من العجز والضعف وكانت سببا من أسباب ما نزل بهم من الركود والتخلف عن ركب الحضارات، معضلة الاختلاف والتنازع، والشقاق والتفرق، والعداوة والخصومة.
وإن هذا المرض قد عم أثره وأصاب الأفراد والأسر والمجتمعات.
ففي هذا العصر يشاهد العالم كله كثيرا من الأمم والمجتمعات ترسخ بينها أواصر التعاون والتوحد يوما بعد يوم، وتسير نحو وحدة شاملة قائمة على التعاون في جميع مجالات الحياة شيئا فشيئا، بينما بقيت المجتمعات المسلمة تنزع نحو التفرقة، وتؤثر الخصومة على المصالحة، وتقدم التدابر والتنازع على التعاون والتآلف. وإنه لأمر غريب حقا، لأن كتاب الله عز وجل- وهو الذي يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ويتهجدون به في لياليهم- حافل بالبيانات السامية والتوجيهات الهادية في موضوع التعاون والوحدة، والتحذير من الاختلاف والعداوة. ثم إن رسول الإسلام وهو خاتم الأنبياء والمرسلين- أقام حياته كلها من أجل أمة واحدة لا يؤثر في وحدتها اختلاف أجناسها ولا تنوع لغاتها.
فالقاعدة الراسخة في القرآن الكريم وسنة رسول الله وسيرته أن بناء الحضارات وقوة الأمم إنما تقوم على أساس التآزر والتعاون ولا تقوم مع التدابر والتنازع .
إن التنمية الحقيقية إنما تحصل لمن اتصف بروح الانفتاح على غيره وآثر التعاون ونبذ أسباب الشقاق والنزاع.
وإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا الموضوع كثيرة جدا، يستفاد من مجموعها أن وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، وتعاون دولهم وتآلف مجتمعاتهم فريضة عظيمة، وإن تفرقهم وتنازعهم منكر في الدين عظيم ومعصية لله عز وجل خطيرة.
فمن الآيات العظيمة في هذا المجال، قول الحق تبارك وتعالى في إيجاز وإعجاز ” وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين“( الأنفال:47 ) فالآية واضحة وصريحة حتى إنها على شكل معادلة رياضية ترتبط فيها الأسباب بالنتائج على جهة الضرورة والبداهة. فانظر كيف جمع ربنا عز وجل وهو الحكيم العليم- بين التنازع وبين الفشل مستعملا حرف الفاء في قوله تعالى فتفشلوا، ليفيد السببية، وإن هذا الفشل إنما سببه التنازع. فهي أصل عام وقاعدة مطردة تسري في كل عصر وتصدق على جميع الأمم والمجتمعات البشرية. ومما يستوقف النظر أيضا في هذه الآية الكريمة أن هذه القاعدة التي تفيد أن التنازع يؤدي إلى الفشل- جاءت بين أمرين اثنين: الأول أمر بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى ” وأطيعوا الله ورسوله” والثاني الأمر بالصبر في قوله تعالى هنا ” واصبروا إن الله مع الصابرين” وهذا الترتيب الذي جاءت الآية عليه له دلالة عظيمة، فقد بدأت الآية بقوله تعالى :” وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” ليفيد أن طاعة الله ورسوله إنما هي بالاجتماع والتعاون والوحدة والتآزر، ليفهم أيضا أن الاختلاف والتنازع معصية لله ورسوله. ثم جاء بعد ذلك بقوله ”واصبروا إن الله مع الصابرين” ليفيد أن وحدة الصف واجتماع الكلمة والتعاون والتآزر عمل حضاري وسياسي واجتماعي واقتصادي عظيم وخطير شأنه، لأن حصوله يوجب كثيرا من الصبر، لأنه يتطلب الضبط الكبير والتنظيم الدقيق لئلا يؤثر التنوع البشري والاختلاف الفكري في التعاون والوحدة. فلحصول الوحدة والاجتماع لابد من العمل الجاد المنضبط ليتم الاتفاق على دستور جامع، وهذا لا يتم إلا بشيء من التنازل من جميع الأطراف وجميع الجهات.
وفي هذا المعنى أيضا ورد قول الله تعالى:” لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس” (النساء:113 ) فبين عز وجل أن التواصل والتناجي الذي يتم بين الناس ليس له قيمة تذكر ولا فائدة تعتبر إلا إذا كان من أجل الاجتماع والتصالح. ويقول الحق تبارك وتعالى أيضا في هذا المعنى “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم” (الحجرات: 10 ).
ولا يفهمن من هذا أن الوحدة التي ينشدها الإسلام إنما هي وحدة تجمع المسلمين وحدهم، إنما هي وحدة وميثاق على التعاون البشري والتآزر الإنساني. وهذا ما يفهم من قوله تعالى ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”(الحجرات:13 ).
فبين ربنا هنا أن غاية الخلق وحكمة الحياة إنما هي التعارف والتعاون، وليس التدابر والتخاصم.
وإن هذا الخطاب جاء لعموم الناس ” يا أيها الناس” فهذه الآية بمنزلة دستور جامع للوحدة البشرية وميثاق بين الناس على التعاون ونبذ الشقاق والعداوة.
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته نجد الشواهد كثيرة في هذا المعنى، ويكفينا من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقف طويلا عند هذا الموضوع، فأعلن أمام الجمع العظيم من الناس أن الذي جاء به من الدين الخاتم، إنما يقوم على الاجتماع والتعاون، فمما قال في حجة الوداع صلى الله عليه وسلم: ” فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وحتى دفعة دفعها مسلم مسلما يريد بها سوءا…
وقال أيضا :” سأخبركم من المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من آمن الناس على أموالكم وأنفسهم…
وقال أيضا ” ويحكم، أو قال ويلكم فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض..
ثم يختم رسول الله هذا الموضوع بدستور جامع من أجل وحدة شاملة للبشر فيقول ” أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي فضل على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ثم يقول الأهل بلغت؟ اللهم فاشهد”.
فانظر في هذه البيانات الربانية والتوجيهات النبوية كيف ترفع الإنسان إلى أعلى مقام وتسمو به في مراتب الرقي. فجعل ربنا عز وجل الوحدة والاجتماع طاعة وقربى وجعل التفرق والتنازع معصية وانحرافا.
فالرهان الحقيقي الذي يجب أن يربحه المسلمون اليوم قبل غيره- بل هو شرط للرقي والتقدم الفكري والحضاري – هو ترسيخ وحدة جامعة يتم فيها التعاون والتآزر في جميع مجالات الحياة، ويتقى بها كل عداوة أو خصومة أو شقاق أو نزاع، فكل عمل أو تصرف لا يدخل في هذا المعنى فهو عبث ولغو زائد، لأنه كما قال تعالى : ”لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نأتيه أجرا عظيما، ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.” (النساء: 113- 114 )